أخبار الأدب والثقافة › أدب وثقافة › وعلي المقيمين داخل القصر مراعاة فروق التوقيت..
المقيمين داخل القصر
احترس النظام يرجع للخلف.. شعار يخطف بصري في الميدان ، يبدو بالغ الدلالة بين عشرات الشعارات التي تتسم بالحدة والمباشرة. مقتبس من لغة السيارات بتصرف بسيط ، في بعض الأحيان قد تلتهم السيارة أثناء عودتها للوراء شخصا لم ينتبه إلي التحذير المسجل بصوت إلكتروني جاف. الأحداث المتتالية تجعل كلمات اللافتة أكثر حدة. فالنظام الذي يرجع إلي الوراء بسرعة يسعي لحرق كل شيء. بث الرعب هو الأسلوب الأمثل ، لامانع من دفع المئات من المأجورين لإرهاب من لا حول لهم ولا قوة ، ليل القاهرة يكتسي بسواد يفوق عتمة الغابات التي لم أرها في مجاهل افريقيا. بعدها بأيام قليلة تخرج الحيوانات عن مساراتها المعتادة لتعتدي الجمال والبغال وكائنات أخري علي ساكني الميدان. لكن الحرف الأعزل يثبت أنه يمتلك قدرا لا بأس به من القوة ، قدرا جعل الأقنعة تتهاوي لينقلب السحر علي الساحر!
(4)
( فلاش باك.. قبل الفقرة السابقة بأيام قليلة جدا )
سنوات عديدة جمعتني مع ليل المدينة ، أعشق قدرته علي التمدد حتي حواف الحلم. غير أنه تحول فجأة إلي عالم مخيف ، ليلة أولي من الرعب كادت تلتهم ما في قلوبنا من بقايا الشجاعة ، بعيدا عن زخم الميادين نعايش الثورة في الهامش تليفزيونيا. نمر بين كتل الأسمنت التي تحدها ثكنات عسكرية وإحدي دور القوات المسلحة ومقابر تضم قصرا ملكيا معدا لاستقبال الرئيس بعد عمر طويل! في الثالثة صباحا أعتذر للساهرين بأنني مضطر أن أغادر ثكنة الحراسة الخاصة بنا للنوم لارتباطي بعمل في الصباح التالي ، لا أنسي أن أطلب منهم إيقاظي في حال الضرورة. زوجتي تغلق الباب مستعينة باستحكامات غير معهودة وتصر علي النوم بملابسها والأنوار موقدة ، أغفو للحظات امتدت بعض الشيء قبل أن أصحو منزعجا علي استدعاء طاريء ، الإشارة المتفق عليها في حالة الخطر انطلقت فجأة. قفزت من سريري وعدوت إلي الخارج بملابس نومي وفي يدي سلاحي الذي اخترته ولازمني أياما.
عندما وصلت إلي أول الشارع كان كل شيء قد انتهي. كل مافي الأمر أن هناك دراجة بخارية كانت تقترب مما أثار قلق الساهرين. عدت إلي أعلي وقد فارقتني الرغبة في النوم لكن رغبة في استحضار الشتائم القبيحة ظلت تلازمني في الأيام التالية. كانت من نصيب اولئك الذين يقامرون بشعب كامل من أجل الحفاظ علي كرسي.
(3)
الصورة لا يمكن أن تكذب. هذا ما ظللنا نردده لسنوات طويلة ، مقتنعين بأن الكلمة يمكن أن تتلون لكن الصورة تظل أكثر صدقا. غير أن الزيف امتد إلي كل شيء ، فاكتسبت الصورة التي يفترض أن تكون محايدة سمات الحرباء. التليفزيون الرسمي يبث مشاهد شاعرية للنيل والشوارع خالية من حوله ، وعلي بعد أمتار قليلة ميدان تحول إلي ساحة قتال حقيقية. يسقط فيه قتلي ومصابون. في المساء يظهر المذيع المتأنق الذي يسعي للحفاظ علي مايتقاضاه في البرنامج صاحب الحظوة. يتجشأ كلمات سبق أن رددتها وزارة الداخلية مؤكدا أن المتظاهرين مجرد قلة من الباحثين عن العدالة الاجتماعية والذين لا يعنيهم التغيير في شيء ، وفي اليوم التالي تنساب الدموع من عينيه حزنا علي مجند لقي حتفه بعد أن تلقي ضربة في رأسه. لم يذكر المذيع أي شيء عن عشرات القتلي علي الجانب الآخر لأنه لم يتلق تعليمات بذلك ، وعندما اعترف التليفزيون الرسمي بخطئه بعد تنحي الرئيس عاد المذيع نفسه واستضاف شخصين: أحدهما من أقرباء شهيد من ضباط الشرطة والآخر كان شقيقا لشهيد من المتظاهرين. لم يبد علي المذيع أنه منزعج مما سبق أن ردده في الأيام الأولي للثورة ، لكنه هذه المرة بكي علي الفقيدين!
(2)
حمي البيانات امتدت إلي كل شيء. فقد أصدر مطعم كنتاكي بيانه رقم 1 علي هيئة إعلان مدفوع مؤكدا أنه مغلق منذ الأيام الأولي للثورة ، وأنه لم يقم ببيع أية وجبات خلال هذه الفترة. وهكذا تمت تبرئة المتظاهرين من تهمة تناول وجبات كنتاكي! غير أن محترفي الشائعات لا يأبهون بهذا. فقد ظهر ممثل ينتمي للصف الثاني علي شاشة التليفزيون مؤكدا أن الميدان تحول إلي وكر للرذيلة ، وأن الشباب والفتيات يمارسون الجنس في الخيام التي أقاموها هناك! في أوقات كهذه يتم اغتيال المنطق بدم بارد. كثيرون ساهموا في محاولة تشويه الثورة مثل فنان الجيل الذي تخلي عن جيله في البداية وعندما بدا أن الأمور تمضي في سياق غير الذي توقعه حاول ركوب الموجة لكن الميدان لفظه فبكي مؤكدا أنه تعرض للخداع!
(1)
وعلي السادة المقيمين داخل القصر مراعاة فروق التوقيت. هكذا كانت الأمور تمضي. كان فرق التوقيت يتعدي جميع الفروق المتعارف عليها فوق سطح الكوكب الذي أصبحت مصر فجأة بؤرته. ثلاث مرات تشير الفضائيات إلي خطاب متوقع بعد دقائق. تمتد الدقائق لتصبح ساعات تتمخض عن بيان يزيد النار اشتعالا. لو أن كلا منها جاء قبلها بأيام لاختزل أحداثا كثيرة ، لكن سوء التوقيت كان يستدعي مثلا شائعا: تكلم حتي قلنا ليته سكت! حرصت علي أن أكون بين الناس فور انتهاء الخطابين الأولين ، اللجان الشعبية منحت الحدثين نكهة خاصة ، ومع الخطاب الثالث كانت جيوش الشوارع قد تراجعت إلي المنازل بعد الشعور بالأمان فقررت انتظاره علي المقهي الذي لم يمنعه حظر التجوال من فتح أبوابه ، رغم أن الفضائيات كلها تسابقت في التنبؤ بخبر التنحي إلا أن معظم رواد المقهي كان لهم رأي آخر ، ومع ذلك ازدحم المكان عن آخره ، لم يكن هناك أي مقعد شاغر حتي ان المناضد اختفت وحلت الكراسي مكانها في صفوف متراصة ، مشهد لم يكن يحدث إلا في مباريات كرة القدم ، وعندما بدأ الخطاب شعر الجميع بالإحباط مع أول جملتين.
(صفر)
يوم جمعة آخر. سبقه بيوم البيان رقم 3 للرئيس الذي يتشبث بمنصبه معتمدا علي تأكيدات المنتفعين من حوله بأن خروجه في هذا التوقيت سيسبب فراغا دستوريا. قرر المتظاهرون أن يتجهوا إلي قصر العروبة. بعد العصر بقليل ظهرت إشارة خجولة علي شاشة التليفزيون بأن نائبه سيوجه كلمة للشعب. قررت ألا أنتظرها واتفقت مع زوجتي- التي أدمنت المشاركة في المظاهرات منذ أن اصطحبتها في مظاهرة مليونية- أن نتجه إلي قصر العروبة. أقنعنا المحيطين بنا أننا سنتفرج من بعيد لنجنبهم القلق. قبل وصولنا كان خبر التنحي قد جاءنا. وصلنا إلي القصر لنجد الآلاف يهتفون معا: تحيا مصر. بعد أن قضينا بعض الوقت عدنا لنصطحب ابننا ونتجه إلي ميدان التحرير. قضينا الليل هناك وسط الملايين الذين سهروا للاحتفال بعودة زمن المعجزات.
( صفر آخر )
السطور السابقة كُتَبت قبل أربع سنوات. بعدها تبدلت الأمور مرارا. وزادت الأحداث غموضا لدي البعض بينما جعلت الوقائع نفسها آخرين مقتنعين بأنهم يملكون اليقين!! إنه الحدث الواحد يملك القدرة علي طرح تفسيرين متناقضين!! تماما كتلك الفتاة الحالمة سالي زهران التي اعتبرها بعضهم أيقونة للثورة بينما أكد آخرون أنها مجرد ضحية لحادث سقوط من الشرفة. كل منهم يمتلك منطقه الداعم. والجميع وقتها تصارعوا علي جثتها ، حتي إن نداءات من عينة اتقوا الله فيها ظهرت لتؤكد أن نشر صورتها ( سافرة ) يعتبر إساءة لها لأنها كانت ترتدي الحجاب! إنه النزاع الذي عايشناه بعد ذلك علي جثث أخري كثيرة ، كما أنه الخلاف نفسه علي ثورة سرقها تيار وحاول تيار آخر قتلها. لكن المؤكد أنها ستظل حية.. ولو علي ضفاف الحلم.
أضف هذا الخبر إلى موقعك:
إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك
الأكثر قراءة
موقع طريق الأخبار غير مسؤول عن الأخبار والتعليقات المنشورة في الموقع وكذلك التي ترد من مصادر أخرى.
كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!