سارة.. كان أبى ينادينى كما يحلو له دائما أن ينادينى، يحكى أنه حينما كان يعتمر وبعد أن تعب من الطواف والسعى جلس، وظهره مستندا إلى أحد الأعمدة فى مواجهة باب الملك عبدالعزيز.. غفت عيناه من التعب وتشبعت روحه من روحانية المكان، أتت السيدة سارة زوجة الخليل كما أخبرته حين سألها عمن تكون، ومن بين يديها تساقطت قطرات الماء البارد على وجهه التَعِب؛ فصحا وكأن الماء قد غسل روحه، سارة.
أخبر أمى فرحا فى أقرب اتصال هاتفى وهى فى الشهر التاسع أن هذا إسمى، وأنى بنت، فرحت أمى بالرؤية والبشارة وبدت فى عينيها دمعة حزن على وعدها للسيدة نفيسة بتسميتى على إسمها، كنت صغيرة جدا لدرجة أننى لم أكن أعرف من كل ما يدور حولى سوى تلك الكلمات التى تلتقطها أذناى، كنت أنتظر على أحر من الجمر ذلك اليوم الذى سنذهب فيه أنا وأمى وأبى وخالتى وأولاد خالتى إلى السيدة نفيسة لزيارتها، كما وعدتها أمى قبل ولادتى وكما كنت أسمع من أبى «الجمعة الجاية نزور السيدة نفيسة»، كنت أتخيل تلك السيدة نفيسة إحدى قريباتنا والتى سنزورها يوم الجمعة كما قال أبى.
وكنت طوال تلك الليلة التى تسبق الذهاب إليها أتخيل لها أشكالاً تشبهنى، أتخيلها إحدى قريبات أمى فأشبِّهها بوجهها الأبيض المستدير وبعينيها الصافية وقسمات وجهها الملائكية وإبتسامتها التى تحيى العالم من حولها ليشاركها الضحك، وأحيانا أجد أبى يتحدث عنها وكأنها الأقرب إليه.. فأراها ذات ملامح مصريه خالصة.
سمراء البشرة، عسلية العيون الواسعة وتنطق كل تقسيمة فيها بجزء من أجزاء مصر، منحوتة الملامح.. رقيقه طِيبة القلب إلى حد النقاء؛ ومازلت أقرِّب شبهها من عائلتى حتى سمعت أبى ينادينى لنذهب إليها، بعد استعدادى للذهاب سمعت أصوات جيرانى وأصدقائى الصغار يلعبون.. ونادانى صوت فرحهم.. أولى أولى أولى، فجريت إليهم.. كان دورى فى لعب الأولى وبدأت فى رفع إحدى قدماى عن الأرض والقفز داخل المستطيل الأول (على رجل ونص) وقمت بالدوران حول قطعه البلاط المستديرة الصغيرة دورة كاملة حتى أركلها ركلة قوية، لكنها كانت أقوى مما أتخيل حتى أنها عبرت الثلاث مستطيلات المرسومة بالطباشير على البلاط وعمود الحديد الأسطوانى، الذى يتوسط مدخل الممر المؤدى إلى الميدان الكبير، جريت خلفها حتى رأيتها لكن الميدان الكبير شغلنى من أول لحظة أنظر له فيها، رأيت الحدائق التى تحيط به على مساحه كبيرة.. رأيت البيت الكبير أو كما قال الأولاد الأكبر سنا (القصر).
كان للكلمة وقع مختلف على أذنى، كان (كلاكس) سيارة أبى ينادينى، لم نبتعد كثيرا عن الميدان الذى نسكن فيه إلى جوار سور القصر الكبير الذى يحتل منتصف الميدان وتقف عساكره باستمرار على أبوابه وكأن بداخله كنز الملك سليمان! مرَّت بنا سيارة أبى وعيناى متعلقة من داخلها بأسوار القصر الكبير، كنا نمر بشوارع ضيقه وشوارع أخرى واسعة حتى مررنا بشارع يملؤه من الجانبين بيوت عريقة ذات طراز إسلامى بديع يجمع بينها أن دورها الأول عالى جدا وبداخله ممرات ومحلات، بداخل واجهاتها أدوات موسيقيه متنوعة وأثاثات لتجهيزات المنازل، بعد زمن وسنين كثيرة تساءلت فى حيره
ما الذى يربط بين تلك الأشياء وبين اللوحة الزرقاء المعلقة على أحد جانبى الشارع مكتوب فيها شارع محمد على! كنا نخرج من أحد الشوارع الجانبية، وفى مواجهتنا تماما مكان ذو طراز إسلامى تظهر فيه بوضوح قطعه جميلة من الأرابيسك المعشق تتوسطها لوحه كتب عليها (البيبانى) تحتل كل الواجهة، تمر بجانبها مدخنه عاليه جدا يخرج الدخان من أخرها يملأ الشارع بأكمله برائحة شهية.. سرعان ما تبينت أنه محل كباب وكفتة، أثارت تلك الرائحة شهيتى، وبدأت فى البكاء طالبة من أبى أن آكل، أسكتتنى أمى قائلة: «لما نروح السيدة نفيسة نأكل هناك م الندر»، فرحتُ جدا متخيلة أن للسيدة نفيسة مطعما كبيرا مزدحما بالناس أكبر من هذا المطعم الذى مررنا بة وغفوت أحلم بتلك السيدة نفيسة.
فجأة توقفت سيارة أبى وأفقت من غفوتى فرأيت ميدانا كبيرا جدا تملؤه السيارات من كل الأنواع وزحام من ناس كثيرون، كلهم يسيرون فى إتجاه واحد، أغلبهم يحمل سجادة صلاة فى يده ويلبس جلبابا أبيض، كان لهذا الميدان رائحة تختلف عن الميدان الذى نسكن فيه، تلك الرائحة تأخذنى أنا وأبى وأمى لنسير مع جموع الناس إلى حيث يسيرون، كنت صغيرة جدا وقصيرة ولا أستطيع أن أرى سوى مستوى يدى التى أمسكتها أمى قابضة عليها بيدها، بعد مسير ليس بالبعيد وضحتْ أمام عيناى صورة حقيقية ومبهرة لمسجد عظيم، غاب أبى فى مدخله الأيمن، مكتوب أعلى بابه (نفيسة العلم والمعرفة، كريمة الدارين، السيدة نفيسة رضى الله عنها).
أضف هذا الخبر إلى موقعك:
إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك
كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!