رغم مرور عشرات السنين علي إنتاجه الأدبي، مازال ابداع نجيب محفوظ محلا للبحث العلمي، ونحن هنا بصدد عرض أحدث دراسة أكاديمية حول عمله الشهير (الثلاثية)، والتي تقدم بها الباحث (محمود عبدالباري تهامي)، المعيد بمجمع اللغة العربية. جاءت الدراسة حول جدل النظم السيميوطيقية، وتشكيل الدلالة الروائية في ثلاثية نجيب محفوظ، وحصل عنها علي درجة الماجستير بإشراف الدكتور سامي سليمان.
حاولت الدراسة الكشف عن علاقات الجدل بين النظم السيميوطيقية التي يتشكل منها النص الروائي خاصة النظم المؤسساتية (نظم القرابة، الدين، العادات، الجنس، النظام الطبقي والسياسي)، وبين غيرها من الأنظمة السيميوطيقية من ناحية أخري وهي (دلالتها الروائية التي تجسدها الشخصيات وما تؤديه من أدوار والتي علي أساسها يتشكل الحدث الروائي، كما لم تغفل الدراسة دور الأنظمة الدلالية العضوية (نظام الاشارات الجسمية والحركات والأوضاع والتجاور، والتواصل عن طريق اللمس والشم والذوق، والتواصل البصري والسمعي، والأدوات الخارجة عن الجسد (الملابس، الحلي، العطور وتركز الدراسة علي الجدل القائم بين هذه الأنظمة، وأثر ذلك في حركة الشخصية وفي نموها أيضا).
اختار الباحث الثلاثية باعتبارها عملا تحقق فيه ما لم يتحقق في غيره من الأعمال من حيث النضج الفني الذي جعلها علامة فاصلة في مسيرته الابداعية، كما أنها تعطينا عالما موازيا لثلاث مراحل تنمو خلالها ثلاثة أجيال تمثل أسرة ممتدة، يبدو فيها الجدل بين المكان والزمان من ناحية، وعلاقات الوحدات القرابية من ناحية أخري، وما يحدث بينها من جدل يولد الحركة الدرامية، ويشكل الدلالة الروائية من ناحية ثالثة.
وعن الثلاثية أورد الباحث أن محفوظ كتبها مكتملة تحت عنوان (بين القصرين)، ولصعوبة نشرها (إذ كانت تقع في حوالي ألف ومائتي صفحة تقريبا) نشرتها مكتبة مصر علي ثلاثة أجزاء (بين القصرين) عام 1956، (قصر الشوق) عام 1957، ثم السكرية عام 1957، وتدور أحداثها حول أسرة السيد أحمد عبدالجواد متخذة بدايتها من استيقاظ «أمينة» استعدادا لانتظار الغائب (السيد) تنير له الطريق، وجاعلة نهايتها احتضار أمينة بعد وفاة سيدها.
ويشير الباحث إلي أنه بين البداية والنهاية نكتشف ونعيش حياة الاسرة الممتدة بين 1917، 1944، أي تبدأ قبل نهاية الحرب العالمية الأولي، 9 اكتوبر 1917، ويمكن تحديد الخطوط الرئيسية لتلك القوة، بأنها فترة نشوء البرجوازية المصرية في الريف، وفي المدن، وكانت البرجوازية المصرية يومها الطبقة النامية (التقدمية) التي كانت تتولي قيادة الحركة الوطنية، وكان المجتمع المصري آنذاك لايزال مجتمعا إقطاعيا، لأن الطبقة البرجوازية (التجار) والرأسمالية لم تكن قد سيطرت بعد علي البناء الاجتماعي، وإنما كانت تكافح في سبيل السيطرة عليه، ومن ثم فنحن ننظر إلي المجتمع المصري وتحولاته من خلال أسرة السيد أحمد عبدالجواد، لأنها صورة مصغرة مكثفة لهذا الواقع الكبير الصارخ بالتناقض والمعاناة. وفيها نجد صراعا خفيا بين سيطرة (السيد) واستبداده من ناحية ومن ناحية أخري يسعي جميع أفراد أسرته إلي التخلص من تلك السيطرة، وفي النهاية ينتهي الصراع لصالح جميع أفراد الأسرة.
ويواصل الباحث: تتوازي تلك الهيئة مع هيمنة المستعمر والقصر علي مصر التي خرج أبناؤها يطلبون الحرية والاستقلال فكانت ثورة 1919، التي وازتها داخل بيت (السيد) ثورة الأبناء حين حرضوا أمهم علي الخروج لزيارة الحسين، ما كان سببا في تعرضها للنفي، ثم العودة، ثم ثورة (فهمي) علي الأب يوم خرج لأداء واجبه الوطني، وثورة (ياسين) علي البيت حين راود أم حنفي عن نفسها، وحين اكتشفت زينب سقطته مع الجارية، ومراوغة عائشة لذلك النظام الصارم حين فتحت النافذة لتعلن عن حبها أمام الضابط، وتنفيس (خديجة) لما عانته من كبت عند انتقالها إلي بيت المرحوم (شوكت)، ثم ثورة (كمال) علي الدين وانتصاره للعلم والمعرفة، وبين جدل قائم بين جيلين، جيل الآباء، وجيل الأبناء، ينتج جيل ثالث مغاير لكل منهما إنه جيل الأحفاد الذي مثله أحمد شوكت الثائر علي طبقته الاجتماعية، وكل ما يرتبط بها من قيم، وعبدالمنعم شوكت المتطرف دينيا، ورضوان ياسين، الشاذ جنسيا والمتسلق اجتماعيا، ويبقي (كمال) ممثلا للمرحلة الانتقالية، وشاهدا علي التحولات التي أصابت الجميع.
اعتمد الباحث في دراسته علي اجراءات التحليل البنيوي كمنهج.
وجاءت دراسته في أربعة فصول، تناول الباحث في الفصل الأول منها التأسيس النظري لما اشتملت عليه دراسته من مصطلحات وما اعتمدت عليه من نظريات.
وفي تفصيلات دقيقة بين الباحث دلالات الاسماء في الثلاثية، وأوضح الرمز فيها فكان »السيد أحمد« هو الأب، وقد يكون في نفس الوقت الزعيم الرئيسي، الملك، وتبقي »أمينة» الأم بما يحمله اسمها من معاني العقل، الحكمة، الصدق، رمزا للأرض وهكذا«.
وكان الفصل الثاني عن علاقات الجدل القائمة بين وحدات نظام القرابة من ناحية وغيرها من النظم، باعتبار أن الوحدة القرابية علامة مفردة يتحدد معناها في علاقتها بغيرها من العلامات أو في علاقتها مع المنظومات الأخري كالعادات، الدين، الجنس، الطبقة السياسية، الاشارات الجسمية، الألوان، المصاحبات اللغوية، الأثاث، الطعام والشراب الزمان، المكان.
فالباحث يبين أننا نجد أن »السيد« يمثل قيمة الاستبداد، وهو بذلك- وفقا للشروط التاريخية والاجتماعية والدينية التي يمثلها- يبدو في عالمه متماثلا مع الحاكم (الباب العالي، الخديو، المستعمر)، فهو يحمل نفس القيم الاستبدادية والاقطاعية التي يسعي إلي الاحتفاظ بها إلي النهاية، في المقابل نجد أن »أمينة« تتماثل مع »مصر« التي عانت من الخضوع والطاعة لكل من وقعت تحته من هؤلاء المستبدين جميعا ونلمح أيضا أن نفي أمينة، كان متزامنا علي مستوي الزمن الروائي مع نفي سعد زغلول، ولنفس العلة وهي علة الرغبة في الخروج من البيت، أمينة كانت تتوق إلي زيارة الحسين، وسعد كان يسعي للخروج من مصر إلي باريس ليعرض مطالب البلاد في موتمر الصلح.
ومن ناحية أخري نجد الأبناء يمثلون قيم التحرر، والثورة بمختلف اتجاهاتها (فهمي) يمثل قيم التحرر السياسي، ودفع حياته ثمنا له، أما (ياسين) فقد كان تحرره تحررا أخلاقيا، لايؤمن بغير اللذة، أما (كمال) فقد جاء تحرره تحررا عقليا، ومن هنا فقد اتصل بالعالم من حوله، اتصال المستكشف المستنير، وهذا ما دفعه إلي تفضيله لمدرسة المعلمين علي مدرسة الحقوق للالتحاق بها.
وخص الباحث الفصل الثالث من الدراسة بتحليل أنظمة الجنس والعادات والتقاليد والدين، وفيه حاول الباحث أن يستكشف علاقات الجدل بين أنظمة الجنس والدين والعادات من ناحية، ونظام القرابة من ناحية أخري، وقد تبين له أن الراوي جعل من الجدل محركا رئيسياً للحدث الروائي، وعنصرا فاعلا في تشكيل ملامح الشخصية وتوجهاتها المذهبية، وفي تشكيل العوالم القرابية، وتأثير نظام الاشارات الجسمية، ونظامي الزمان والمكان في تلك الجدلية.
ويواصل: اذا كان آباء السيد أحمد عبدالجواد قد تستروا علي الجنس بالشرع، واستعانوا علي الشهوة الجنسية بالزواج والطلاق وتعدد الزوجات، فإن السيد أحمد يمثل نموذجا جديدا، يفوق جيل الآباء في الصدق، وإن حفلت حياته بالأضواء، فالسيد أحمد له وجهان متناقضان لكيان واحد، ظاهره التقوي وباطنه الشهوة، فهو يجمع بين رجل الدين ورجل الدنيا، في وحدة تتخطي هذه الثنائية، تلك التلقائية نراها تتوازي مع تشكيل المكان سواء في البيت أو في الدكان، فإذا علمنا أن البيت في الرواية يقع موقع مسجد برقوق في الواقع، إذ إن سبيل بين القصرين الذي وضعه الراوي في مواجهة البيت وهو في الواقع لايوجد أي بيوت أمامه، وإنما يوجد أمامه مباشرة مسجد برقوق الضخم، ومن ناحية أخري نجد الراوي قد جعل الدكان مقابلا لمسجد برقوق، وهو بذلك قد وضع الدكان مكان سبيل بين القصرين في الواقع، وهذا يعني أن كلا من البيت والدكان قد جعلهما الراوي في موضعين متقابلين قياسا علي الواقع.
ويوضح الباحث ان البيت حين يكون في موضع المسجد، فهذا يحيلنا علي قداسة البيت، وقد يحيلنا علي قداسة صاحب البيت، علي نحو يصل بالسيد أحمد إلي درجات القداسة، وأعلي درجات الهيمنة، وفي المقابل نجد الدكان في موضع السبيل الذي يقصده القاصي والداني، الشريف، والوضيع، أي أنه رمز اللانساني.
وخص الباحث الفصل الرابع والأخير بالنظامين الطبقي والسياسي، وفيه وضح أن الصراع فيهما منشؤه نظام القرابة، وقد تجلي أثر النظام الطبقي في أنظمة الملابس والأشياء والأثاث والهيئات الجسمية والطعام والشراب ، كما توصل الباحث من خلال تحليل نظام الطبقة الاجتماعية، إلي ما يمارسه الصعود الطبقي في المنظومات التي شكلها النظام القرابي، فهيئة الشخصية، واشاراتها الجسمية، تتطور عند الانتقال من طبقة إلي أخري، مثال التطور الصاعد: زنوبة وفؤاد حمزاوي، ومثال الهبوط: حسين شداد، وأخته عايدة وكمال ولاحظ الباحث أن النظامين الطبقي والسياسي كانا يعملان متضافرين مع نظام القرابة من ناحية ونظامي الزمان والمكان.
وأكد الباحث أن نجيب محفوظ تعامل مع النظم السيميوطيقية تعاملا فنيا يدل علي تمكنه من أدواته الثقافية التي ضفرها وشكل منها متن الثلاثية فقد استطاع أن يشكل لنا عالما موازيا ضمن فيه كل القيم الثقافية التي تحملها وحدات النظم التي اعتمد عليها.
وأخيرا أوصت الدراسة بتدريس الاشارات الجسمية علي نحو أوسع لايكون الهدف منه رصد الاشارة بمعزل عن غيرها من النظم التي تتجادل معها إنما يكون تحليلا سيميوطيقيا شاملا يتناول العلاقات الجدلية بين الاشارات التي تنتمي لمنظومة واحدة، والاشارات التي تنتمي لمنظومات مغايرة، مع مراعاة البعدين التزامني والتعاقبي في عملية التحليل.
تمت مناقشة الرسالة بقسم اللغة العربية بكلية الآداب، جامعة القاهرة بإشراف كل من: د. سامي سليمان، د. عزة شبل وناقشها د. سليمان العطار، د. إيمان السعيد (كلية الألسن).
أضف هذا الخبر إلى موقعك:
إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك
كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!