الشيء البهيج الذي يخلف راحة بالنفس البغدادية، ويعيد لها ترفها الذي عرفت به في حقب من الماضي البعيد، هي إطلالة الزوارق النهرية، التي أطلقت عليها وزارة النقل تسمية (التكسي النهري)، فنهر دجلة جدير بأن تخب عباب موجه هذه المراكب التي تنقل البغداديين بين ضفتي مدينتهم، وتخفف عن كاهلهم الازدحامات التي تحفل بها الشوارع والجسور الرابطة بين الرصافة والكرخ. النهر طويل والأحياء على ضفتيه عديدة وسيستفيد أبناء هذه الأحياء المتنقلون بين الصوبين، سواء للعمل أو التسوق أو التجوال، إضافة لطابعها السياحي والترفيهي للآخرين.
كم كنت أغبط وأحسد أبناء المدن والعواصم الكبيرة التي تشقها الأنهار، وأنا أرى زوارق النقل والعبارات واليخوت تطوف على مياهها، راسمة لوحة أخاذة من الجمال والمتعة والاسترخاء الذي يشعر به المتنقلون على متن هذه المراكب المتنوعة الأشكال والأحجام، إضافة إلى فائدتها ومردودها الاقتصادي، مدن تنبض بالحيوية والحياة كـ (أمستردام وباريس ولندن وبودابست.. والكثير من العواصم غيرها)، حيث يشع النهر وهجاً وحركة وتزدهر على ضفتيه محطات استقبال عصرية، تضم المقاهي ودور الاستراحة والمطاعم والساحات الخضر وأماكن لعب الأطفال.
النهر هو حياة المدينة ورمز تمدنها وجمالها وثقافتها ورخائها، وما يميز العراق، أن أغلب مدنه تقع على نهري دجلة والفرات، لكن وللأسف الشديد لم تستغل هذه الأنهار والأماكن في إنشاء أسطول نقل نهري، سواء للبضائع أو الأشخاص، عكس ما كان يحدث أيام زمان قبل وبعد منتصف القرن الماضي، حينما كانت هناك مؤسسة للموانئ والنقل النهري وإكراء الأنهار وتنظيفها من الرواسب والغرين لتكون آمنة في التنقل، حتى مجئ البعث إلى السلطة وبدأ الخراب يحل بهذه المدن وأنشأت على شواطئها الجسور الواطئة التي تعوق حركة الزوارق المتوسطة والكبيرة، وكأن الزمن توقف، بل تراجع عشرات الأعوام للوراء عمرانياً وبنى تحتية وشوارع خربة، نتيجة الحروب والمغامرات العسكرية التي أوصلتنا لهذا الحال، كما وزعت أغلب مساحات الأراضي التي تقع على الأنهار إلى قيادات في الحزب وضباط الأمن والجيش والشرطة، وكادت تلك المدن تختنق وتستغيث، ومنها بغداد التي ضاقت مساحة الضفاف الخضر المطلة على النهر فيها بتشييد بعض القصور والأسوار العالية التي لا يمكن للناس عبورها أو الوصول اليها، ابتداء من كرادة مريم والجادرية والمسبح والأعظمية، وصولاً إلى مناطق غربي بغداد.
كم هو منظر يسر النفس، حين ترى النوارس والطيور التي عادت للتحليق فوق دجلة بغداد، وهي ترافق هذه الزوارق مصحوبة بهمسات وصيحات المرح في وجوه الصبايا والفتيان وخفق الأجنحة والرقص كأنها في حفل زفاف، مخلفة وراءها آثار الدمار والإرهاب والفجائع التي ضربت هذه المدينة.
بغداد وجميع المحافظات والمدن وناسها لا تليق بهم سوى الحياة والفرح والأمان.
أضف هذا الخبر إلى موقعك:
إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك
كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!