المؤرخ محمد عفيفي: الثورة تقوم ثم تضع مبادئها

ثمانية وخمسون عاما مرت على أحداث ثورة يوليو 1952 , ورغم ذلك فلا تزال الأسرار كثيرة عن حركة الضباط الأحرار التي غيرت وجه مصر ومن سار على درب التحرر من بعدها، ولعل من المفارقات التاريخية ما يذكره كتاب "باشوات وسوبر باشوات" للدكتور حسين مؤنس من أن نجاح الحركة التي يطلق عليها عموما "الثورة" ساعد فيه تحرك يوسف صديق قبل موعده بساعة إلى كوبري القبة للإستيلاء على مركز قيادة الجيش ! حيث كان ثمة اجتماع يدور بين قادته للقبض على الضباط الأحرار.

وفي الشهر الذي يحمل معه ذكرى الثورة ، دار لقاء شبكة الإعلام العربية "محيط" مع الدكتور محمد عفيفي , أستاذ التاريخ الحديث بجامعة القاهرة, حول تساؤلات منها هل ما حدث كان انقلابا أم ثورة ؟ لماذا تتعمد أقلام تهميش دور محمد نجيب؟ وما حقيقة الأموال والقصور الملكية المتهم بالإستحواذ عليها رجال الثورة؟ وكيف ضاع السودان ..

محيط: كيف تصف مصر فترة ما قبل الثورة ؟

شهدت فترة ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية حراكا سياسيا , وظهرت حركات سياسية عديدة خلال الفترة ما بين 1919 و1952, وكان ظهور أكثر من تيار دليل على الليبرالية والتعدد, صحيح أنه كان هناك تضاربا سياسيا لكننا في نفس الوقت نجد تيارات عديدة مختلفة الرؤى والاتجاهات وهذا شئ جيد , وهو أمر اختفي بعد ثورة يوليو مع سيطرة فكرة "الكل في واحد" .

ولهذا السبب لا أستطيع أن أظلم مجتمع ما قبل 23 يوليو, ونستطيع أن نقول بأن المجتمع كان في حالة حراك خاصة في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وكان مؤهل لعدة خيارات, والذي نجح هو الخيار العسكري , وكانت الخيارات الأخرى مثلا أن يصل الأخوان المسلمون للحكم أو الشيوعيون أو يعيد حزب الوفد إحياء نفسه.

محيط : لماذا ظل الفاعل في حريق القاهرة يناير 1952 مجهولا ؟

حريق القاهرة سيظل لغزا ؛ وقد شاركت فيه تيارات كثيرة, وكان تعبيرا عن حالة الفوران الشعبي بعد إلغاء معاهدة 1936 وبعد معركة كفر عبده والاعتداء على جنود الشرطة , لهذا رفعت الشرطة يدها عن الشارع احتجاجا على المذبحة , وكانت بالتالي الفرصة مواتية لحرق القاهرة من جانب قوى وطنية وغيرها مجهولة.محيط : كيف يحرق الوطنيون بلادهم ؟!

ليس بالضرورة أن يكون الشخص الوطني هو الذي حرق , فربما شارك "بلطجية" أو قوى غير معلومة , لكن فكرة الحرق كانت موجهة في الأساس ضد الممتلكات الأجنبية؛ فأحيانا حينما يزيد الشعور الوطني ينقلب عكسه , فيظهر في صورة الرغبة في الانتقام من ممتلكات الأجانب بينما هي في الحقيقة موجودة على أرض مصر .

محيط : هل تورط الضباط الأحرار في الحريق؟

لا أعتقد أن يشارك الضباط الأحرار في حرق القاهرة , فقد كانوا أعقل من ذلك , لكن ربما يكونوا قد استثمروا الحريق في الهجوم على النظام.

محيط : البعض صور نجيب يستيقظ على مكالمة تخبره بحركة الضباط ورغبتهم في مشاركته ؟ !!..

الجميع اشترك في الثورة، والجميع خرج وهو يضع روحه على كفه ؛ أنور السادات مثلا هناك رواية تقول بأنه ذهب إلي السينما حيث "عمل خناقة" ليثبت تواجده هناك، وأنا لا أعتقد أن الأمور بهذه البساطة, لأن الثورة لو انكشفت لطالت المحاكمة الجميع, لكن بعد نجاح الثورة - وأي ثورة – يحاول البعض أن يقلل من أهمية دور الآخرين مقابل تعظيم الدور الذي قام به.

وبالنسبة لمحمد نجيب , فهو الأب الروحي للثورة , فلم يكن الضباط معروفين للشعب المصري وبالتالي كان لابد لهم من وجه معروف، ولولا نجيب لما نجحت الثورة ، لكن حدثت بعد ذلك اختلافات في الآراء وتمت تنحيته بشكل استفزازي وتعسفي .

محيط : لكن البعض يشبه محمد نجيب بواجهة فقط للثورة ؟

محمد نجيب كان ضرورة للثورة؛ فلن تستطيع أن تقوم بثورة بضباط برتبة بكباشي في دولة مثل مصر, خاصة أن معظمهم كان معروفا للشعب المصري. أما بخصوص دور يوسف صديق , فقد قام بدور مهم ليلة الثورة , عندما تحرك ساعة قبل الموعد المتفق عليه، و القول بأن نجيب كان في منزله , وناصر وعامر كانا في الشارع , والسادات في السينما مجرد قصص ظهرت بعد نجاح الثورة.

محيط : هل ما حدث ليلة 23 يوليو ثورة أم انقلاب برأيك؟

انقلاب .. لكن بعد أن تبني الضباط مجموعة من القرارات والسياسات التي حازت على موافقة الشعب تحول الانقلاب إلى ثورة أحدثت تغييرا اجتماعيا. ونلاحظ أن مصطلح ثورة أو انقلاب من المصطلحات الفضفاضة ، وبالمناسبة فكلمة "انقلاب" ليست إهانة ، لكننا شعوب تقف عند الكلمات، فنختلف كثيرا عن مصطلحات أخرى مثل الغزو والفتح، وفي رأيي هذه الاختلافات مجرد ترف من جانب المثقفين .

محيط : هل امتلك الضباط الأحرار فكرا سياسيا ؟

ما حدث ليلة 23 يوليو كان مجرد حركة تطهيرية في الجيش انعكس أثرها على المجتمع، وبعد التأييد الشعبي تغيرت نظرة الضباط للأمور، ولكن بالطبع لا نستطيع سؤال ضباط في الثلاثينات من عمرهم عن أفكارهم ونظرياتهم السياسية؟! ، والمعروف في أي ثورة أنها تقوم ثم بعد ذلك تضع مبادئها .

محيط : ما دور القوى الوطنية في ثورة يوليو؟

الثورة عمل جماعي شارك فيه الوطنيون، منهم مثلا عبد المنعم عبد الرؤف من الأخوان المسلمين, وخالد محي الدين ويوسف صديق من "حدتو" , وعبد الناصر الذي كان يميل إلى حزب "مصر الفتاة" ، وكان هناك ضباط أحرار من الصف الثاني على علاقة وثيقة بالوفد.

محيط : لماذا رفض عدد من الضباط العودة لثكناتهم؟

حينما وصل الضباط للحكم وجدوا أن القوى السياسية الموجودة لا تصلح لإدارة أمور مصر , وأرادوا برأيي أن يلعبوا دورا تاريخيا، فلا يمكن أن يتمسكوا بالحكم لرغبتهم في حيازة السلطة والمال والقصور الملكية والذي يبرر به البعض رفضهم العودة للثكنات، أما ما حدث في أزمة مارس 1954 وانقسام الجيش إلي مؤيد لاستمرار الضباط أو عودة الديمقراطية كان مجرد اختلاف في وجهات النظر .

وظهور هذه طبقة "السوبر باشوات" أو الذين استولوا على القصور وغيرها، جاء متأخرا بعد استقرار الحكم وبالتحديد في نهاية الخمسينات وفي فترة الستينات ، لكن في بداية الثورة لم يكن الفساد موجودا مثلما انتشر بعد ذلك, باختصار لا أقول بأن الضباط تمسكوا الحكم في الفترة ما بين 52 و 54 بسبب الرغبة في الاستيلاء على المال .

محيط : لكن مذكرات نجيب تؤكد أن الضباط عمدوا للاستيلاء على أموال وقصور ملكية؟

اللواء محمد نجيب كتب ذلك بعد أن حبس لفترة طويلة، وطبيعي أن يحدث فساد في عملية الاستيلاء على القصور الملكية سواء من المدنيين أو العسكريين ، لكن فكرة أن يسيطر العسكريون من أجل السلطة والمال شئ آخر , فقد ظهرت في نهاية الخمسينات بعد أن تولوا العديد من المناصب المدنية , ثم في الستينات عندما تولوا مناصب رؤساء مجالس إدارات.. هنا يمكن أن نتحدث عن فساد حقيقي .

لكن في بداية الثورة وحتى 1954 لا أستطيع أن أقول أن العسكريين سيطروا من أجل المال والسلطة؛ فالثورة مرت بالعديد من المراحل فلا يمكن تعميم ما حدث في فترة على ما سواها؛ فمثلا لدينا ثروت عكاشة كان وزيرا بحكومة الثورة هل يمكن أن نتهمه بالفساد المالي ؟!.

محيط : ما حقيقة أزمة مارس 1954 ؟

الأزمة كانت صراعا بين تيارات ترى ضرورة عودة الجيش إلي الثكنات وتيارات ترى أن الضباط لهم دورهم التاريخي، والتيار الاخير تزعمه عبد الناصر وكان يرى أن للجيش دوره في الحياة السياسية، وكل الثورات من الروسية والأمريكية والفرنسية كان لديها ما يشبه للغاية أزمة مارس .

محيط: هل كان عبدالناصر صائبا في رأيه؟

كمؤرخ أرى أن عبدالناصر اختار الطريق الخطأ, والدليل أنه حاول الرجوع إلى الديمقراطية ولم يستطع.

محيط : ما دور الصاوي أحمد بأزمة مارس ؟

الصاوي قال أن عبد الناصر دفع له عن طريق أحد الضباط مبلغ 10 آلاف جنيه من أجل إخراج مظاهرات تهتف بسقوط الديمقراطية والأحزاب .

محيط: لماذا انسحب نجيب من الصراع مع ناصر؟

محمد نجيب بطبيعته وسنه كان أكثر رزانة , والثورة لا يحكمها الأكثر رزانة , وإنما يحكمها الضباط في مقتبل العمر.

محيط : هل دبر عبدالناصر حادثة المنشية 1954 للتخلص من الأخوان؟

المنشية أو حادثة إطلاق النار على الرئيس جمال عبدالناصر أثناء إلقائه خطابه بميدان المنشية السكندري والذي اتهم فيه الأخوان المسلمون، ستظل مثل حوادث أخرى في التاريخ غامضة، ومن توابعها كحدث انتقام عبد الناصر من الأخوان الذي أخذ طابعا أكثر تشددا ولا ديمقراطية.

محيط : ما تقييمك للاشتراكية التي طبقت في عهد ناصر ؟

لم تكن اشتراكية حقيقية بدليل أن الشيوعيين والاشتراكيين كانوا ينتقدوها, لكنها كانت أشبه برأسمالية الدولة.

محيط : كيف هدمت الثورة دولة مصر والسودان ؟

السودان ضاع لأسباب متعددة ؛ أولها تهميش محمد نجيب من جانب حكومة الثورة وقد كان ضابطا ذو شعبية كبيرة في السودان، كما أن الضباط الأحرار ركزوا على إصلاح الوضع في مصر وليس في السودان, ولهذا وافقوا على إجراء استفتاء في السودان معتقدين أن كاريزمية مصر ستمنع السودانيين من الانفصال عن مصر، كما كان لدى البعض نوع من التعالي على السودانيين، وبشكل عام أدارت الثورة ملف السودان بطريقة خاطئة .

محيط : زعامة عبدالناصر كيف تراها؟

للأسف عبد الناصر دفع حياته ثمنا للزعامة التي كان يبحث عنها؛ فقد دفعه المحيطون به لتحمل دور كبير جدا , وهو ما عرضه لضغوط نفسية وعصبية رهيبة تسببت في وفاته المبكرة.

المصدر: عرب نت 5