جالس مستند إلى حائط قديم مجرد، يرتدي بنطالاً قصيراً وقميصاً ذهب أغلب كُميه؛ وشمٌ لنصف صليب إعتلى زنده الأيمن، ولعل العتمة أودعت أطراف جسده الأخرى العارية مغبّها. وديعة الزقاق، كان يتحاشى النظر إلى الشارع.. إلى أقرب نقطة في الشارع.
نهض.. وقف برهة. مشى بضع خطوات ثم توقف. سرق النظر إلى ما خلفه؛ كان متوجساً، وعاد محاولاً إحتواء الممر الضيق بنظرة عميقة. مشى بخطوات متثاقلة، وقدماه الملساوان الحافيتان اعتلتهما قذارة جامدة. حاد عن الممر الرئيس باتجاه آخر فرعي. دخل ممراً أكثر ضيقاً. أخّر خطوةً. يعرف المولود في مرحاض خانٍ منعزل في ذلك الزقاق، مكان الصليب.
سمع غمغمةً يصعد صداها في أُذنه. ينزل رهن تعرجات الممر غير المنتهي؛ كما الزقاق الذي باغته ينتمي إلى عالم كبير من التيه. المنازل خالية إلاّ من شيخوختها، وأغلب الأبواب شبه مفتوحة إلى الخارج وبعضها مهشم والواجهات متصدعة ولا خارطة لها.. بل لا صدى، أما النوافذ فتأتي صفقاتها على فراغ عالم متوحد بالرهبة.
أرضية “الدرابين” متآكلة. مغبرٌ ذلك الدرب؛ ودرست المخلفات مجرى مياه الصرف الصحي التي كانت تشق غير درب. المخلفات تترك انطباعاً غنياً عن الجوع.
يعرف أن ثمة طريقاً واحداً للطبقة الثانية من المنزل الذي يقترب منه.
غمغمة، ضربت أذنه، بدت قريبة، وهو يسير بذلك الإيقاع المتوازن في البطء والحذر. رطن قابل من المنزل إياه .. المنزل الذي تبعث نافذة فيه وفتحة الباب الخشبي البسيطة خيوط ضوء.
تميز الصوت، وتضرب مسمعه حروف مبعثرة متشظية، تخترق رأسه. الهدوء الذي يتملكه جدل مطمئن لفراغ المكان. جدل أشباح، مريب.
اقترب. وهو ماضٍ شبه ملكان لدار عرض. صار أكثر قرباً: الصوت أضغاث متلبسين، وليس هو لحاجيات تعبث بها الريح!..
لمح ضوءاً أصفر خافتاً. اقترب.. ومبعث الضوء؛ الضوء يعكس حركة مريبة في الداخل. الضوء شريط عمودي يغرق في الليل.
أخّر خطوة. توقف؛ هو بمحاذاة نافذة سرق منها نظرة إلى الداخل. ثم مضى مغمض العينين واضعاً يديه على أذنيه.
* * *
واصل السير، خطوات متثاقلة ذهبت به إلى نهاية الممر الذي حاد عنه جانباً. هو مرهق تماماً.
جلس وهو يتكئ على حائط، وضع رأسه في زاوية من إلتقاء حائطين، وبينما هو يحاول التفكير في طريقة للحصول على الصليب. وجد نفسه مركزاً في لوحة زرقاء علقت أعلى منزل إتخذ ركناً في منتصف الزقاق. ركز أكثر فيما اللوحة تتلاشى شيئاً فشيئاً.
عيناه مترددتان، أغلقتا حيث غلبه الكرى، فانتهى متكوراً على نفسه وكأنه كيس قمامة.
* * *
الباحة الواسعة يؤم تقاطيعها الأثاث القديم الذي كان في حجرة الاستقبال ومغطى بالشراشف منذ وقت طويل وتحت شريط الضوء الغارق في العتمة، كان سمعهم يقولون:
– “لا…. لا ينتمون… لشيء”
وبسخرية:
– “شعب.. ههههه.. أمة.. ها ها ها…”
نوبات سعال شديدة تتخلل جملاً متقطعة، يقتحمها صوت ثان.. يرطن:
– “أوووه.. مؤكد.. لأنهـ…. ها ها ها..”
صوت ثالث:
– “إممممم .. أُمم، أبناء المرتزقة، أولاد المخلفات…”
صوت رابع:
– “لازم نطمرهم…”
أحدهم يقتطع الحديث:
– أشعر بـ …..؟.
صوت قريب من الباب، ويتجه نحو الداخل، بسخرية وهوج:
– “ماكو شي…ماكو شي..”
وهو ينزل إلى الباحة:
– “شبيكم.. جِنْ…”
صوت، منعزل.. وبعيد، ساخراً:
– “إرحل…. إرحل..”
فترتفع قهقهات من الصميم، روعت المكان…
أضف هذا الخبر إلى موقعك:
إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك
التعليقات على زقاق الياء
هذا الخبر لا يحتوي على تعليقات.
كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!
أضف تعليق