رسالة سرية من السادات لـ«كيسنجر» صباح 7 أكتوبر: «لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة»
• هيكل: هذه ربما تكون أول مرة فى التاريخ يكشف فيها محارب لعدوه عن نواياه كاملة
• اختارت إسرائيل الواثقة من نوايا مصر التركيز على الجولان لتعود بعد ذلك إلى سيناء لتصفية بقية الحساب
• ديان انهار يوم 7 أكتوبر وجولدا مائير كانت فى حالة ذهول مما تسمعه عن الخسائر الإسرائيلية
• كيسنجر: إسرائيل تلقت هزيمة استراتيجية بصرف النظر عما يمكن أن يحدث بعد ذلك
• إسرائيل تصرخ مستنجدة بواشنطن بعد أن خسر جيشها خمس طائراته وربع دباباته فى أربعة أيام
صباح يوم 7 أكتوبر 1973 وصلت العلاقة بين «السلاح» و«السياسة» إلى قمة الدراما على الجبهة المصرية، ففيما كان السلاح ورجاله «يتقدمون على الجسور كما لو أنهم يقومون بعملية تدريب»، والعدو عاجز عن تحديد مناطق جهودهم الرئيسية، أو الكشف عن نواياهم الحقيقية، كانت «السياسة» فى إدارة هذه الحرب تتطوع بكشف هذه النوايا وكشف «خطوط السلاح» قبل أن يمضى على اندلاع القتال 20 ساعة فقط. ففى الوقت الذى كانت الفرق المصرية الخمس بطول جبهة قناة السويس تنتهى من تحقيق مهمتها المباشرة بعبور القناة، واقتحام خط بارليف وتكبيد العدو أكبر خسائر ممكنة فى الأفراد والسلاح والمعدات، وقبل أن تندفع لتحقيق مهمتها التالية بتوسيع رءوس الجسور شرق القناة وصد ودحر الهجوم المضاد الرئيسى للعدو، كان الرئيس أنور السادات قد أرسل إلى وزير الخارجية الأمريكى، «هنرى كيسنجر» عبر قناة «سرية» رسالة يقول له فيها «إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة»، و«كانت هذه أول مرة ـ ربما فى التاريخ كله ـ يكشف فيها طرف محارب لعدوه نواياه كاملة»، بتعبير الأستاذ محمد حسنين هيكل.
ننوه فى البداية إلى أن الكاتب الكبير فى هذا الجزء الثانى (على طريق الحرب) من كتابه «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» قد حشد الكثير من المعلومات والوثائق التى توضح حقيقة ما جرى على جبهات «السلاح» وجبهات «السياسة» على مدى 20 يوم قتال (من 6 أكتوبر ـ 26 أكتوبر) يوما بيوم، بشكل يجعل من يتصدى لعرض هذا الكتاب فى مأزق حقيقى، ذلك أن المساحة المتاحة مهما كبرت لن تستطيع أن تلم بكل هذه التفاصيل، ولذلك اضطررنا للتوقف أمام محطات رأيناها مفصلية خلال هذه الأيام العشرين، ونشدد على أنها لا تغنى ـ بحال من الأحوال ـ عن العودة للنص الأصلى.
يقول «الأستاذ» على الرغم من عبور القوات المسلحة لقناة السويس إلا أن السادات لم ينم طوال ليلة العبور، ويفسر ذلك بأنه عاش معجزة، وكان هو الذى أعطى الإشارة فوقعت المعجزة (وشاهد ذلك ما تكرر على لسانه كثيرا فيما بعد عن «جيشى» و«طيرانى» و«أسطولى»، وكثير غير ذلك منسوب إليه شخصيا).
وإنه يريد أن يحتفظ بنسب المعجزة إليه وحده (وشاهد ذلك قوله فى هذا الوقت المبكر إنه لا يريد زحاما حوله.. حتى من مستشاره للأمن القومى الذى أرسله ليعمل من قصر الأمير السابق محمد عبدالمنعم). وهو نتيجة لذلك كله مطالب فى تقديره بضرورة التحرك بسرعة لتثبيت المعجزة واستمرار بقائها فى حوزته وإحكام السيطرة عليها قبل أن يحدث أى شىء. وقاده ذلك بالطبع إلى التفكير فى إسرائيل، وقاده التفكير فى إسرائيل إلى التفكير فى الولايات المتحدة الأمريكية (وشاهد ذلك ما فعله صباح يوم 7 أكتوبر)».
غلاف كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» للكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل
ما حدث صباح الأحد 7 اكتوبر ـ بحسب «الأستاذ» ـ أنه لم يكن قد مضى على بدء المعارك أكثر من 20 ساعة وبعث الرئيس السادات برسالة إلى هنرى كيسنجر، ووقعها حافظ إسماعيل، مستشار الرئيس السادات للأمن القومى (منشورة بكاملها فى الكتاب)، ويقول البند رقم (6) فيها «إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة».
ويعلق الكاتب الكبير على هذه الرسالة قائلا: «كانت هذه الرسالة شكلا وموضوعا علامة خطيرة تجعلها بداية تحول لا شك فيه فى إدارة الصراع كله، من ناحية الشكل فإن هذه الرسالة جرى توصيلها إلى كيسنجر عن طريق القناة الثانية، أى القناة السرية التى تمر عن طريق وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، وربما كانت هناك حاجة إلى هذه القناة عندما كانت الرغبة فى تجنب وزارة الخارجية والاتصال من وراء ظهرها بكيسنجر فى البيت الأبيض، ولكن كيسنجر أصبح الآن وزيرا للخارجية خلفا لوليم روجرز، وبالتالى فإن الاتصال به عن طريق القناة السرية لم يعد يخدم الهدف المقصود من الأصل، وكان واضحا أن كيسنجر يدرك طبيعة هذا الاختلاف فى الصورة، فهو لم يبعث برسالته عن طريق القناة الثانية، وإنما بعث بها عن طريق وزارة الخارجية».
يتصل بجانب ذلك من ناحية الشكل أمر على درجة شديدة من الخطورة. ذلك أن العودة إلى هذه القناة السرية فى هذا الوقت، والتذكرة بالاتصالات السابقة وما دار فيها كان من شأنه على الفور أن يستعيد بطريقة كاملة أجواء هذه المحادثات والموضوعات والتفاصيل التى تم بحثها من خلالها. ولما كان ذلك كله قد جرى قبل الحرب وقبل الصورة المعجزة للعبور فى اليوم السابق، فإن الجانب المصرى سواء وعى ذلك أو غاب عنه عاد إلى استئناف الحديث مع كيسنجر من حيث تركه آخر مرة فى فبراير 1973، مع أن الصورة العامة بعد القتال اختلفت تماما عما قبله».
ويواصل هيكل «أما من ناحية الموضوع فإن بعض العبارات كانت ـ ولا تزال ـ مثيرة للاستغراب: إن العبارة التى وردت فى الرسالة والتى جاء فيها بالنص فى البند رقم 6 من الرسالة (إننا لا نعتزم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة) كانت أول مرة ـ ربما فى التاريخ كله ـ يقول فيها طرف محارب لعدوه بنواياه كاملة، ويعطيه من التأكيدات ما يمنحه من حرية الحركة السياسية والعسكرية على النحو الذى يراه ملائما له وعلى كل الجبهات وذلك أن التعهد بـ«عدم تعميق مدى الاشتباكات أو توسيع مدى المواجهة» معناه بالنسبة لإسرائيل ـ وقد كانت الرسالة فى خاتمة المطاف واصلة إليها ـ أنها تستطيع أن تعيد ترتيب موقفها بأعصاب هادئة، وتستطيع تنظيم أولوياتها. وقد كان ذلك ما حدث فعلا، واختارت اسرائيل الواثقة من نوايا الجانب المصرى أن تركز كما تشاء على الجبهة السورية، ثم تعود بعد ذلك إلى الجبهة المصرية لتصفية بقية الحساب».
النجاح يتوالى
انتقل بعد ذلك الكاتب الكبير للحديث عن الأوضاع فى ميادين القتال يوم 7 أكتوبر، فأكد أن القوات المصرية والسورية تواصل نجاحاتها منذ بداية القتال، وذلك من واقع «تقرير موقف» مقدم من مكتب الرئيس للشئون العسكرية إلى الرئيس السادات، ومنشور كاملا فى الكتاب. وأشار إلى أن أصداء المعارك كانت قد بدأت تصل إلى كل مكان فى العالم العربى، وتحدث ردود فعل أشبه ما تكون بسلسلة ردود فعل انفجار نووى بما يتبعه من شائعات وتساقطات. مشيرا إلى أن الهجوم المصرى ـ السورى «كان منسقا بدرجة عالية الكفاءة. وقد نجحت القوات العربية فى تحقيق مفاجأة استراتيجية وتكتيكية حققت نتائج لم تكن فى تقديرات إسرائيل».
شارون وديان وكبار القادة يخططون للهجوم المضاد
ثم عرض لسلسلة اجتماعات مجلس الوزراء الإسرائيلى بكامل هيئته، كانت قد بدأت من ليلة 7 أكتوبر وطوال نهاره، وأثناء الاجتماعات اختلفت الآراء بين موشى ديان وزير الدفاع، ورئيس الأركان «دافيد إليعازر»، كان رأى الأخير: أن الموقف تحت السيطرة رغم الخسائر الكبيرة وصدمة المفاجأة.
وكان رأى «ديان»: أن الموقف أسوأ بكثير مما عرضه رئيس الأركان. وتقديره أنه لابد من إجلاء بقية النقاط الإسرائيلية الحصينة على قناة السويس، والتراجع إلى خط دفاعى جديد على بعد 20 كم من قناة السويس على أن يتم التمسك بهذا الخط بأى ثمن. ولاحظ الوزير الإسرائيلى «جاليلى» أن ديان كان منهارا، كما أن جولدا مائير كانت فى حالة ذهول مما تسمعه.
واستقر الرأى فى الاجتماع على أن يتوجه رئيس الأركان فورا إلى الجبهة الجنوبية لتقييم الموقف ويحدد إمكانيات قيام إسرائيل بهجوم مضاد. وتقرر فى الاجتماع أيضا أن يتخلى «رحاييم بارليف» عن واجباته كوزير للصناعة والتجارة. وأن يعود إلى الخدمة العسكرية مؤقتا برتبته السابقة عندما كان رئيسا لهيئة أركان الحرب، ويتوجه فورا إلى الجبهة الشمالية لإجراء تقدير جديد للموقف وبحث إمكانية هجوم إسرائيلى مضاد.
وانتهى المجلس فى نهاية المطاف إلى قرار يطلب إلى الولايات المتحدة إمداد عاجلا من السلاح، خصوصا من الطائرات والدبابات. وكانت «جولدا مائير» بعد الاجتماع شديدة العصبية وهى تعطى الأوامر بطلب النجدة الأمريكية سريعا وبدون إبطاء.
تحركات كيسنجر
يعرض بعد ذلك الكاتب الكبير لتحركات وزير الخارجية الأمريكية بقوله «كان كيسنجر» يتحرك بكل قوة. وقد كان همه الأول ليلة 7 أكتوبر (صباح 7 أكتوبر بتوقيت القاهرة) الإمساك بزمام التحركات فى الأمم المتحدة بحيث يمنع بحث الأزمة أمام الجمعية العامة. لأنه كان يخشى من أغلبية دول العالم الثالث الموجودة فيها، ويعتبرها موالية للعرب. ونجح أيضا فى تعطيل اجتماع طارئ لمجلس الأمن. وكان اعتقاده الراسخ أن إسرائيل سوف ترد الهجوم المصرى وسوف تحوله بسرعة إلى هزيمة ساحقة.
وكانت تعليمات «كيسنجر» لمساعديه فى تلك الفترة هى إعداد مشروع قرار «يقضى بعودة جميع القوات إلى مواقعها السابقة قبل بدء العمليات». وعندما تلقى «هنرى كيسنجر» رسالة الرئيس «السادات» بتوقع «حافظ إسماعيل»، فقد زاد اقتناعه بموقفه.
وفى الساعة 9:40 من صباح يوم 7 أكتوبر (بتوقيت واشنطن) اتصل «شاليف» القائم بأعمال السفارة الإسرائيلية بمكتب وزير الخارجية الأمريكى ينقل إليه رسالة «جولدا مائر» وكانت تحوى نقطتين: نحن نواجه الأمور بكل شجاعة وحزم حتى تتم دعوة الاحتياطى من القوات والسلاح، ومن ثم يبدأ هجومنا المضاد. وتطلب على وجه الاستعجال تعويضا عن الخسائر التى تكبدتها خلال الـ24 ساعة الماضية، خصوصا فى الطيران.
وقام «كيسنجر» على الفور بدعوة مجموعة العمل الخاصة فى مجلس الأمن القومى الأمريكى لبحث الموقف الخطير المتفجر فى الشرق الأوسط. وقد دخل قاعة الاجتماع ومعه طلب «جولدا مائير»، وبدأ بعرضه ملحقا به توصيته بضرورة الاستجابة وتعويض إسرائيل بسرعة عن خسائرها من الطائرات.
وفقد كيسنجر أعصابه فى هذا اليوم وقال بحدة: «إن إسرائيل قد تلفت هزيمة استراتيجية، بصرف النظر عما يمكن أن يحدث بعد ذلك، ولا ينبغى للولايات المتحدة أن تسمح لهذه الهزيمة بالوصول إلى مداها».
أضف هذا الخبر إلى موقعك:
إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك
كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!