الأخبار المصرية والعربية والعالمية واخبار الرياضة والفن والفنانين والاقتصاد من موقع الاخبار طريق الاخبار

أخبار الأدب والثقافةإصدارات وكتب أدبية › قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:مأزق السادات بعد رحيل عبدالناصر(2)

صورة الخبر: محمد حسنين هيكل
محمد حسنين هيكل

- جبهة داخلية جريحة.. حقائق المشكلات غائبة عنه.. والمسئولية كلها عليه حتى فيما لا دخل له فيه
- أدرك السادات أن أخطر تحد يواجهه هو الجيش.. فلو تأخر قرار الحرب سيعود من الجبهة لتغيير نظام ثبت فشله
- وضع عبد الناصر خطوط توجيه إستراتيجي لمعركة تقتضي عبور القناة بالقوة
- هيكل يستثمر اشتباك الشاذلي مع العدو لتوفير ساعات حاسمة في استكمال حائط الصوراريخ قبل تطبيق مبادرة روجرز
- عبد الناصر كان يرى عبد المنعم رياض هو قائد المعركة الكبيرة المنتظرة.. وصدم باستشهاده
- عبد الناصر: الحل السلمي لن يتحقق إلا مع عمل عسكري يطعم الجيش بتجربة النار ويضغط على إسرائيل
«على طريق الحل» هذا هو العنوان الذى اختاره الأستاذ محمد حسنين هيكل للجزء الأول من كتابه «أكتوبر 73 السلاح والسياسة»، وترصد الفصول العشرة
المكونة لهذا الجزء الخلفيات التى سبقت ومهدت لمشهد عبور الجيش المصرى لقناة السويس يوم 6 أكتوبر 1973، منذ رحيل الرئيس جمال عبدالناصر إلى لحظة اندلاع حرب أكتوبر، «ليست هناك قيمة لرأى إلا إذا كانت قاعدته من المعلومات والأخبار والخلفيات واسعة وكاملة وصحيحة إلى أقصى حد».
وتحت عنوان «البداية.. مأزق رجل»، جاء الفصل الأول من هذا الجزء مستعرضا عوامل حيرة الرئيس أنور السادات بعد رحيل عبدالناصر، «مساء يوم الاثنين 28 سبتمبر عام 1970 كان أنور السادات وجها لوجه مع أدق وأصعب لحظة فى حياته.. وكان قلبه وعقله خلالها نهبا لمشاعر ونوازع مختلطة ومتداخلة بحيث يصعب وصفها بأمانة، لأنه كان يستحيل توصيفها بدقة، وفرز عناصرها، ورد كل منها إلى أصله».
بعد أن استعرض الكاتب الكبير لهذه المشاعر والنوازع المختلطة عند السادات، واجراءات الانتقال الهادئ والسريع للسلطة إليه، وما رافق ذلك من ظهور طموحات آخرين فى خلافة عبدالناصر، توقف عند تقدير موقف أولى واجه السادات به نفسه، «وصباح يوم الجمعة 23 كان يشعر (السادات) أنه بحاجة إلى تفكير عميق فيما حوله وفيما أمامه، وكان تقديره صحيحا حين بدأ فوضع أمام نفسه ثلاث حقائق، وهى: أن خيوط السلطة ليست فى يده، وأن حقائق الموضوعات والمشكلات غائبة عنه، وأن المسئولية عليه كلها حتى فيما لا دخل له فيه.
وكانت تلك بداية واقعية لخصها هو (السادات) تماما بوصف مصرى دارج بقوله (حوسة)، وهو لفظ يفيد معنى الارتباك والحيرة، لكنه بعد هذه البداية راح يحدد لنفسه مواضع ومواطن التحديات، التى تنتظره».
وكانت من أهم هذه التحديات التى استعرضها السادات ـ بحسب «الأستاذ» ـ الجبهة الداخلية التى تلقت فى 3 سنوات صدمتين: نكسة 1967، وفى هذه كان المصريون مصممين على إزالة آثارها، والصدمة الثانية كانت بالرحيل المفاجئ لعبدالناصر، الذى كانوا يرون «بشكل ما أنه قادر على الوصول بهم إلى بر الأمان، ولكن رحيله جعل بر الأمان يبتعد وتبهت خطوطه.. وفى كل الأحوال فإن الجبهة الداخلية فى حاجة إلى جرعات من الثقة، وعليه (السادات) أن يعثر على وسيلة».
من التحديات الأخرى التى واجهت السادات «جبهة القوة والسلطة»، و«أمامه عليها عدد من الرجال يمسكون فى أيديهم بمفاتيحها بالكامل، سواء فى الحكومة أو فى مجلس الأمة أو فى التنظيم السياسى، وأسباب الاحتكاك بينه وبينهم كامنة».
وعلى المستوى الخارجى، كانت أمام السادات عدة جبهات؛ فهناك احتلال إسرائيل لسيناء، وتدعيم أمريكا لها، وتردد الاتحاد السوفييتى فى التعامل مع مصر بعد رحيل عبدالناصر، إضافة إلى افتقاد التنسيق داخل الجبهة العربية.
واستعرض الكاتب الكبير للتحدى الأخير الذى واجه السادات، والمتمثل فى القوات المسلحة المصرية، «وأدرك (السادات) بذكاء أن هذه الجبهة الأخيرة هى الجبهة الرئيسية فى كل ما يواجهه». ويوضح الكاتب بقوله «كان الجيش المصرى قد عاش محنة حقيقية فى ظروف سنة 1967، وتمالك نفسه بعد انتهاء المعارك، وساعدته القيادة المباشرة لعبدالناصر فى تلك الظروف على هذا التماسك، كما ساعدته عليه أيضا عملية إعادة البناء والتسليح التى اعتبرها عبدالناصر مهمة عمره وكرس نفسه بالكامل لها. ثم جاءت حرب الاستنزاف بوقائعها فأعادت لهذا الجيش جزءا من ثقته بنفسه.
لكن هذا الجيش كان لا يزال فى حاجة إلى لوازم حيوية: سلاح أكثر تقدما وتدريب أكثر كفاءة وأرضية سياسية فى الداخل والخارج أكثر تقبلا للتضحيات وأوسع كرما فى المساعدات خصوصا إزاء تفوق على الخطوط المقابلة تزايدت معدلاته ووتائره.
وفوق ذلك كله، وربما قبله، فإن الجيش من ذات نفسه يعيش تحت ضغوط سياسية وعسكرية ونفسية صعبة، وقد كان انفجار 1967 بكل شظاياه محنة مروعة، كما أن مسئوليات لاذنب للتشكيلات المقاتلة فيها نزلت على أكتاف الجيش دون وجه حق. ثم إن هناك فجوة بين الوسائل الموجودة فى يد القوات والغايات التى تحددت لها، وزاد على ذلك أن وجود خبراء سوفييت فى الوحدات حتى مستوى الألوية، بقصد تكثيف التدريب، أحدث دون قصد أسبابا للاحتكاك والحساسية».
ويواصل «الأستاذ» قائلا: «أدرك الرئيس «السادات» أن علاقته بالقوات المسلحة سائرة حتما إلى اختبار: فهو فى وقت من الأوقات لابد أن يصدر أمرا إلى الجيش بالعبور إلى الضفة الأخرى، وإذا لم يفعل ذلك فى وقت معقول، فإن استمرار التوتر والقلق، بل وحتى الملل، قد يدفع الجيش إلى الارتداد إلى الوراء والعودة إلى العاصمة نفسها لتغيير نظام ثبت عجزه وتأكد فشله، وهو لا يستطيع أن يصدر أمرا إلى الجيش بالعبور إلا إذا كان لدى قيادته ما يدعوها إلى الاعتقاد بأن هناك فرصة متاحة للنجاح. وإذا لم يستطع توفير هذا الشرط فإن العصيان ضده مؤكد».
ويختم الكاتب هذا الفصل بقوله إن استعراض السادات لكل ما يواجهه على مختلف الجبهات، صحيحا ودقيقا. لكنه على تنوع جبهاته واتساعها كان جزءا من الموقف، ولم يكن الموقف كله. ذلك أن حقائق أى موقف لا تتجلى عناصرها إلا عندما يتم التفاعل بين ما هو موضوعى وما هو ذاتى، لان الحقيقة فى النهاية إنسانية (...) ومع ذلك كان عليه أن يبدأ دوره ورئاسته وعصره، وأن ينتظر المقادير تعطيه السبيل إلى مخرج من هذا الموقف المستعصى على الفكر والفعل. ولم يكن فى وسع المقادير إلا أن تعطيه أحد مخرجين: إما مخرج إلى حل، وهو ما كان يفضله بالقطع ومعه الحق. وإما مخرج إلى حرب، وهو ما لم يكن منه مفر إذا انسدت كل المسالك إلى الحل لكنه حكم الضرورات لا حيلة له فيه! ولقد كان توجهه الأول وسط أوضاعه التى وجدها شبه مستحيلة أن يبدأ بتجربة مخرج الحل. وراح يفكر ويبحث ويتقصى».

البحث عن حل
جاء الفصل الثانى تحت عنوان «البحث عن حل»، وهنا يؤكد «الأستاذ» أن السادات فى محاولة البحث عن حل دبلوماسى قبل مواجهة ضرورات ومخاطر العمل العسكرى «لم يكن بادئا من فراغ»، مشيرا إلى أن «تجربة البحث عن هذا الحل نشأت بعد نكسة 1967 وفرضت نفسها من قبل رئاسته بوقت طويل».
واستعرض الكاتب الكبير مراحل البحث عن حل للأزمة قبل رحيل عبدالناصر، فقال إن «الفترة ما بين أواخر يونيو سنة 1967 إلى أواخر نوفمبر من نفس السنة كانت دبلوماسية الأمم المتحدة هى النشطة والظاهرة، لكن كل مشروعات القرارات الدولية التى عرضت على الأمم المتحدة اصطدمت بواقع التعهدات التى قطعها الرئيس الأمريكى ليندون جونسون على نفسه وعلى بلده قبل بدء المعركة، ومؤداها أن الولايات المتحدة تتعهد بمنع صدور أى قرار من الأمم المتحدة يدين إسرائيل على عدوانها، وبالتصدى لأى ضغط يفرض عليها الانسحاب من الأرض التى تحتلتها والعودة إلى المواقع السابقة للعدوان إلا بعد حل سلمى تتوصل إليه الأطراف».
ثم ينتقل بعد ذلك للتأكيد على أن التغييرات التى طرأت على القوة الوطنية والإقليمية والدولية فى الفترة التى أعقبت نكسة 1967، أعطت الولايات المتحدة مركزا خاصا فى عملية البحث عن حل لأزمة الشرق الأوسط، «وكانت تلك واحدة من مفارقات التاريخ الصارخة».
ويؤكد على أنه «إذا نظرنا إلى محددات السياسة الأمريكية إزاء الشرق الأوسط وفى ظروف ازمة سنة 1967 بالتخصيص فان الصورة العامة التى تظهر بعد ذلك رمادية وغائمة»، لأن كل دوائر صنع القرار فى واشنطن منحازة كلية لإسرائيل، وعلى رأسها الرئيس الأمريكى ليندون جونسون «وقد تحول عداؤه إلى عبدالناصر إلى قضية شخصية فى بعض الأحيان، كما أن إطلاق العنان لإسرائيل كانت جهده الشخصى، كما أن مستشاريه جميعا دون استثناء من اليهود».
وفى وسط هذه الأجواء يتأكد لعبدالناصر أن «أى حل يحتاج إلى السلاح، وأن الحاجة إلى السلاح تفرض بدورها الحاجة إلى الاتحاد السوفييتى». وهو ما دعاه لزيارة موسكو فى يوليو 1967، لإقناع قادتها بأهمية توريد السلاح إلى مصر «إلى ما هو أكثر من مجرد توفير مقدرة الدفاع».
فى محاولات البحث عن حل لاحت فى الأفق إمكانية حدوث تغيير ما فى سياسة الولايات المتحدة المنحازة لإسرائيل عقب رحيل جونسون عن السلطة وفوز الرئيس ريتشارد نيكسون، وكانت وفاة الجنرال «دوايت أيزنهاور» رئيس الولايات المتحدة الأمريكية الأسبق وصهر نيكسون مناسبة لأن ترسل القاهرة وفدا رفيع المستوى برئاسة الدكتور محمود فوزى وزير الخارجية، لأداء واجب العزاء و«استكشاف طبيعة الأرض الجديدة فى واشنطن فى عهد إدارة جديدة، وقياس درجة حرارة الماء الذى يحتمل أن نخوض فيه قريبا».
وأكد الكاتب الكبير أن فوزى بعد عودته قدم لعبدالناصر تقريرا عن الزيارة قال فيه «إن الموقف فى واشنطن لم ينضج بعد للكلام الجاد»، مشيرا إلى أن إدارة نيكسون ستنفذ ما وعد به جونسون من تسليم الدفعة الأولى من طائرات «الفانتوم»، لإسرائيل وأجمل بأن الإدارة الجديدة «سوف تعكف على قراءة ملفاتها، وبالتالى ما سيصدر عنها فى هذه الفترة يكون مجرد انطباعات»، لكن الذى لفت نظر فوزى هو ذلك الخلاف الذى بدا له بين وزير الخارجية الأمريكية «وليم روجرز» ومستشار الرئيس للأمن القومى «هنرى كيسنجر».
خطوط توجيه استراتيجى
يرى الكاتب الكبير أن تحليل فوزى كان «منطقيا ومتسقا مع شواهد الأحوال، وأكد اعتقاد «جمال عبدالناصر» بأن الحل السلمى لا يمكن له أن يحقق مراميه إلا إذا تواكب مع فرصة للعمل العسكرى النشيط تساعد على تحقيق عدة أهداف منها: زيادة تبعئة الرأى العام المصرى والعربى، ولفت أنظار العالم إلى خطورة أزمة الشرق الأوسط واحتمالات انفجارها، والضغط على إسرائيل وحكومتها الجديدة، تطعيم القوات المصرية بتجربة النار، والتمهيد، واستعادة دروس العمليات لصالح العملية الكبرى.
ويشدد هيكل على أن التفكير لهذه العملية الكبرى «كان قد بدأ فعلا منذ عودة «جمال عبدالناصر» من زيارة الاتحاد السوفييتى فى يوليو 1967، وعندما بدأت شحنات الأسلحة السوفييتية تنتظم. وكتب عبدالناصر خطوط توجيه استراتيجى لمعركة:
ـ تقتضى عبور قناة السويس بالقوة والتمسك برءوس كبارى فى الشرق.
ـ تؤدى إلى إلحقاق خسائر بشرية كبيرة فى القوات الإسرائيلية (لأن نزيف الدم هو وحده الذى يزعج إسرائيل).
ـ تطول أسابيع، ولا تنتهى فى مجرد أيام؛ لأن إسرائيل لا تحتمل بقاء حالة التعبئة العامة طويلا.
ـ تعطى بطول مدتها فرصة لتعبئة الرأى العام العربى، ولفت انتباه الرأى العام العالمى.
ويؤكد «الأستاذ» على أنه كانت أمام «جمال عبدالناصر» منذ نهاية 1968 بداية خطوط لعمل واسع على الجبهة وضعها الفريق «عبدالمنعم رياض رئيس هيئة أركان الحرب، وشاركه فى وضعها الجنرال السوفييتى «لاشنكو»، الذى كان كبيرا للخبراء السوفييت الملحقين بالقوات المسلحة المصرية، وكانت عملية اختبار هذه الخطوط ومحاولات التدريب عليها قد بدأت فعلا عندما تحولت معارك المدافع، التى لم تتوقف على جبهة القتال إلى عمليات عبور محدود إلى الضفة الأخرى من القناة تدخل إلى المواقع، وتواجه تحصيناتها، وتشتبك مع قوات العدو، وتتعرض لدورياتها».
ويضيف هيكل أن «عبدالناصر» تلقى صدمة عنيفة باستشهاد الفريق «عبدالمنعم رياض» فى إحدى معارك المدفعية على الجبهة، وكان يزورها فى 9 مارس سنة 1969. كما أن الجنرال «لاشنكو» أصيب فى ذلك الوقت بنوبة قلبية سافر بعدها إلى موسكو للعلاج. وكان «عبدالناصر» يعتبر لأسباب كثيرة أن «عبدالمنعم رياض» هو «قائد المعركة الكبيرة المنتظرة.. ورجلها».
وهكذا كان استشهاده صدمة حاول استيعابها، وراح بعدها يتابع ويراقب ويفرز تصرفات القادة باحثا عن رجل جديد للمعركة الكبيرة المقبلة، وفى ذلك الوقت كانت تقديراته لها: ربيع سنة 1971.

ويرى الكاتب الكبير أنه عندما لاحت أمام عد الناصر «الشواهد تقنعه بأن يترك أزمة الشرق الأوسط واحتمالات حلها سلميا فى نيويورك، زاد اقتناعه بأن جبهة السويس وليس جبهة نيويورك هى الجبهة التى تستحق أكبر قدر من التركيز»، وبناء على ذلك «تزايدت كثافة العمليات العسكرية واتسع نطاقها. وفى الأيام الأخيرة من شهر أبريل سنة 1969 كانت الجبهة على مسافة 135 كيلومترا من رأس العش فى الشمال إلى خليج السويس فى الجنوب مشتعلة بالنار، ودخلت قوات وصل حجم بعضها إلى مجموعة كتيبة تحت القيادة المباشرة للعقيد «إبراهيم الرفاعى»، القائد الأسطورى للعمليات الخاصة للصاعقة حتى منطقة ممر متلا.
كان عبور قوات بحجم كتيبة كاملة ووصولها إلى ممر متلا إشارة واضحة للقيادة الإسرائيلية بأن الجبهة المصرية أصبحت الآن قادرة على ما هو أكثر من معارك المدافع التى أصبحت حياة كل يوم. كما أنها أخطر من عملية إغراق المدمرة «إيلات» بصاروخ بعيد المدى، فالقتال الآن يحدث عن قرب.. قوات تقاتل قوات على الأرض، وليس مدافع يجرى التراشق بها من بعد مسافات، أو صواريخ تنطلق من قارب سريع لا يكاد يظهر حتى يختفى. ومع الأهمية الكبرى لتراشق المدافع ولإغراق المدمرة «إيلات» فإن عمليات العبور إلى سيناء مثلت نقلة نوعية فى إمكانات الجيش المصرى على القتال المباشر.
ويواصل «الأستاذ» بأنه فى هذه الأوقات كان «التركيز الجوى الإسرائيلى على الجبهة المصرية كان مقلقا، وأرادته إسرائيل عنيفا لاقناع القيادة المصرية بعدم جدوى عمليات العبور إلى سيناء، وأن الإصرار عليها يكلف القوات المصرية خسائر مضاعفة. وردت مصر بخطوة مضادة، فقد راحت تبنى قواعد للصواريخ على طول خط الجبهة حتى يمكن حمياتها من غارات الطيران».
فى 22 يناير 1970 كان عبدالناصر فى موسكو «يجرى لقاء من أكثر اللقاءات إثارة فى كل التاريخ الحافل باللقاءات المصرية السوفييتية» برأى «الأستاذ»، فقد كان عبدالناصر «يعتقد أن نتيجة أزمة الشرق الأوسط سوف تتقرر فيه».
ويعرض بعد ذلك للنتائج الختامية لهذا اللقاء قائلا: «صباح يوم 24 يناير كان عبدالناصر فى طائرة العودة إلى القاهرة، وقد قصد إلى مؤخرتها، وراح يفضى بما يعتقد أنه استطاع تحقيقه خلال يومين حافلين فى موسكو: حقق الدفاع عن العمق من خلال الطائرات والصواريخ السوفييتية التى ستأتى إلى مصر، وأهم من ذلك أن تصعيدا مهما طرأ على حركة المواجهة.. كانت المواجهة حتى الآن بين قوتين إقليميتين فى الشرق الأوسط، مع وجود القوتين الأعظم فى خلفية الصورة. والآن تحولت المواجهة كاحتمال صدام بين القوتين الأعظم لا يريده أحد ولا يستطيعه، وهذا كفيل بتحريك الأمور سياسيا «إذا استطعنا أن نتصرف بحكمة وحذر، ومن موقف القدرة».
ويضيف بأنه فى ظرف شهر كانت أسراب الطيران السوفييتية قد تمركزت فى قواعد جديدة، وبالتحديد فى قاعدة جاناكليس غرب الدلتا، وقاعدة المنيا فى قلب الصعيد. ثم بدأت بطاريات الصواريخ السوفييتية تأخذ مواقعها. ويوم 18 أبريل سنة 1970 توقفت إسرائيل تماما عن غارات العمق، وكان واضحا أن الأزمة انتقلت من الدائرة الإقليمية إلى الدائرة العالمية.

مبادرة روجرز
ينتقل «الأستاذ» بعد ذلك للحديث عن مبادرة روجرز، فيقول «وصل إلى القاهرة مساعد وزير الخارجية الأمريكية جوزيف سيسكو مبعوثا من الرئيس نيكسون يطلب موعدا لمقابلة عبدالناصر، ويفتح حوارا حول إمكانات الحل يستند إلى عدة نقاط يطرحها ويليام روجرز وزير الخارجية»، كانت أهم هذه النقاط تقول: «تتفق مصر وإسرائيل على جدول زمنى لانسحاب القوات الإسرائيلية من أراضى الجمهورية العربية المحتلة منذ الحرب (فى يونيو سنة 1967)». وتلى ذلك نقط أخرى.
ويشير الكاتب الكبير إلى أن «الإشارة إلى الانسحاب لأول مرة، ثم ربط ذلك الانسحاب بجدول زمنى، كان يعطى بادرة يمكن الالتفات إليها على أقل تقدير. وقبل «جمال عبدالناصر» بهذه المبادئ، وكانت حقائق الموقف الدولى والإقليمى وعلى جبهة القتال وفى العمق، تسمح بذلك لاختبار فرص السلام، ثم الاستعداد لمرحلة تالية». ورأى «جمال عبدالناصر» أنه يتحتم عليه قبل بدء مرحلة جديدة، أن يعود مرة أخرى إلى الاتحاد السوفييتى، فقد كان يضع فى تقديره طول الوقت أن الاتحاد السوفييتى له حساباته كقوة عظمى، وأن مصر يتعين عليها أن تراعى ذلك وهى تجرى لنفسها حساباتها الخاصة، ومن الضرورى أن تكون هناك مساحة لقاء بين الحسابات.
وعدد عبدالناصر دواعى قبوله مبادرة روجرز للقادة السوفييت فى أول يوليو 1970 فى ثلاثة أسباب، «أولها أن نتائج زيارتى الأخيرة لكم فى يناير أحدثت تغييرا فى الموازين الاستراتيجية بيننا وبين إسرائيل، فالعمق المصرى اليوم مدافع عنه، والجبهة فى وضع أفضل بكثير، والسبب الثانى الذى يدعونى إلى القبول بالمبادرة هو أننا لا نريد أن نتسبب فى مواجهة بينكم وبين الأمريكيين. فنحن لا نريد لأنكم أعطيتمونا سلاحا أكثر ووضعتم رجالكم فى خدمة الدفاع عن العمق أن تصل المسائل إلى درجة من التوتر تفلت من زمام سيطرتنا.
وهناك سبب ثالث: وهو أننا بقبول المبادرة وما تنص عليه من وقف لإطلاق النار محدود بثلاثة شهور نريد أن نعطى لقواتنا فرصة للحشد والتركيز والتقاط الأنفاس، لأننا حين تنتهى هذه الشهور الثلاثة لابد أن نكون فى وضع يسمح لنا بنوع آخر من العمليات. شىء آخر أكبر من عمليات المدافع والاستنزاف والدوريات المحدودة.
استكمال حائط الصواريخ
ويؤكد هيكل أنه لم يكن لدى الرئيس عبدالناصر أمل كبير فى نجاح مبادرة «روجرز»، وحين أعلن قبولها فقد أعلن فى نفس اللحظة أن أمله فى نجاحها لا يزيد على نصف فى المائة، لكن الواجب يفرض عليه أن يجرب. وفى الحقيقة فإن أكبر دوافعه إلى التجربة كان الحرص على استمرار الدعم السوفييتى وتكثيفه، وتوظيف ما يمكن توظيفه من إمكانات فى مرحلة جديدة من صراع كان يعرف أنه لابد أن يكون عسكريا عند نقطة معينة. وأن تلك هى الحجة الوحيدة التى تقنع إسرائيل.
وكان «محمد حسنين هيكل» فى ذلك الوقت قائما بأعمال وزير الخارجية بالإضافة إلى وزارة الإرشاد القومى، وكان عليه أن يتفق على ترتيبات وقف إطلاق النار مع «وليام روجرز» وزير خاجية الولايات المتحدة الأمريكية.
وقام «روجرز» بمفاجأة، فقد اقترح بالاتفاق مع «جروميكو» (وزير خارجية الاتحاد السوفييتى) وقف إطلاق النار فى نفس المواقع فى الساعة العاشرة بتوقيت جرينتش يوم 6 أعسطس 1970.
واتصل عبدالناصر بهيكل على تليفون مأمون ليقول له: «لا أعرف كيف تفعلها، ولكنى أريدك أن تكسب ست ساعات لفوزى (يقصد الفريق «محمد فوزى») لادخال مجموعة بطاريات صواريخ إلى الجهبة قبل أن يسرى وقف إطلاق النار. هناك أيضا دمى بطاريات صواريخ، وسوف يتم استبدالها ببطاريات حقيقية».
وكانت المهمة عسيرة بالفعل، فإن «روجرز» اتصل بـ«هيكل» تليفونيا من واشنطن ليتأكد من سريان وقف إطلاق النار فى المواقع فى الموعد المحدد، وجرى إبلاغه بأن كل شىء يسير وفق ما اتفق عليه، وان كانت هناك مشكلة واحدة يحاول تذليلها الآن، ذلك أن جبهة البحر الأحمر يقودها ضابط كبير مندفع وهو اللواء سعد الشاذلى، وهو الآن على الخطوط الأمامية مشترك فى بعض العمليات بنفسه، وهو يحاول الاتصال معه بكل وسيلة ليبلغه بقرار وقف إطلاق النار حتى يتأكد التزامه والتزام قواته فلا يواصل عمليات يعتبرها الآخرون استمرارا لإطلاق النار.
وعاد «روجرز» يتصل تليفونيا، ويقول إن الجنرال «ديان» معه على الخط الآخر، وأنه يريد أن يستوثق من التزام مصر بوقف إطلاق النار فى الموعد المحدد؟ وتم الرد عليه بأن «محاولة الاتصال بـ«سعد الشاذلى» فى المواقع المتقدمة على وشك ان تتم الآن».
ومع استغلال «سعد الشاذلى» الذى كان بالفعل خارج مقر قيادته يتابع مسار عمليات لقواته أمكن كسب ساعات ثمينة وغالية.
وسرى وقف إطلاق النار متأخرا فى الليل عن موعده المقرر، وإن كانت المسألة لم تخلُ من تعقيدات لان إسرائيل، ووراءها الولايات المتحدة، راحت تقول إن مصر حركت بطاريات صواريخ بعد الموعد المقرر لوقف إطلاق النار.
وفى وسط هذه الأجواء الخطرة والمشحونة كلها، رحل «جمال عبدالناصر». وتم اختيار «أنور السادات» رئيسا لمصر، وانتقلت إليه مسئولية الحل أو الحرب، وبدأ يواجه مسئولياتها كاملة وقد تبدت أمامه بكل حقائقها وبكل تفاصيلها وبكل احتمالاتها، ولم يكن قد مضى عليه أكثر من أسبوع واحد منذ تولى سلطاته الدستورية.

المصدر: الشروق

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على قراءة فى كتاب «أكتوبر 73 السلاح والسياسة» لهيكل:مأزق السادات بعد رحيل عبدالناصر(2)

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
56424

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

حمل تطبيق طريق الأخبار مجانا
إرسل إلى صديق
المزيد من أخبار الفن والثقافة من شبكة عرب نت 5
الأكثر إرسالا
الأكثر قراءة
أحدث أخبار الفن والثفاقة
روابط مميزة