الأخبار المصرية والعربية والعالمية واخبار الرياضة والفن والفنانين والاقتصاد من موقع الاخبار طريق الاخبار

أخبار الأدب والثقافةأدب وثقافة › قصة الإسلام في أوربا

صورة الخبر: قصة الإسلام في أوربا
قصة الإسلام في أوربا

طرق الإسلام أبواب قارة أوربا من الجهة الشرقية، وذلك بمحاولات المسلمين المتكررة لفتح القسطنطينية منذ خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ولكن تأخَّر فتحها لحصانتها حتى أتَّم الله عز وجل فتحها على يد المجاهد المسلم القائد محمد الفاتح في عام 857هـ الموافق 1453م.

ومع أن دخول الإسلام إلى أوربا كان له أعظم الأثر علميًّا وحضاريًّا وأخلاقيًّا في قارة أوربا، فإننا نتعجب من هذا العداء الدفين في نفوس بعض الأوربيين للإسلام، والذي كانت آثاره واضحة في البوسنة والهرسك؛ حيث أعمل الصرب القتل في مسلمي البوسنة والهرسك بقصد واضح وهو التطهير العرقي.

ويعيش المسلمون في القارة الأوربية على هيئة أقليات متناثرة، يختلف حجمها من دولة أوربية إلى أخرى؛ وقد وَفَد السواد الأعظم من المسلمين إلى أوربا بحكم الصلات السياسية التي كانت تربط بلدانهم بالبلدان الأوربية المستعمرة لها. كما أن أعدادًا كبيرة من سكان أوربا دخلت الإسلام بحكم الصلات التاريخية مع العالم الإسلامي؛مما أدَّى إلى ازدياد فرص التفهم لطبيعة الإسلام عند هؤلاء الأوربيين على اختلاف نزعاتهم الفكرية ومستوياتهم الاجتماعية.

ويواجه المسلمون في أوربا الكثير من المشكلات، يأتي على رأسها جهل المسلمين هناك بكل شيء عن واقع وتاريخ أوربا التي يعيشون فيها، وافتقاد الجاليات المسلمة للقيادة الفكرية المستنيرة الناضجة التي تستطيع احتواء المهاجر المسلم وإرشاده إلى الطريق القويم، كما تعاني الجاليات الإسلامية من خلافاتها الداخلية مثل الخلافات العرقية والمذهبية، وتعاني أيضًا من مخاطر الاغتراب الفكري والروحي؛ لذا فإنَّ الحاجة أصبحت مُلِحَّة إلى فقهٍ للأقليات الإسلامية في الخارج، يدرس أحوال المهاجرين، ويحصر أمرها لتجد سبيلها إلى أحكام فقهية تيسِّر حياة إخواننا في الخارج.

وفي حين نجد نظرة إيجابية من بعض الدول الأوربية للمسلمين كبريطانيا وسويسرا، نجد على النقيض من ذلك رفض إيطاليا الاعتراف بالإسلام كدين رسمي، وينظر الألمان للمسلمين على أنهم خطر على المجتمع، ويدعو رئيس وزراء هولندا إلى إغلاق المدارس الإسلامية.

ويلاحظ ازدياد عدد المسلمين في أوربا، وازدياد شعورهم بالانتماء للإسلام؛ حيث يتمتع المسلمون في أوربا بصفة عامة بحقوق عديدة، مثل حق ممارسة شعائرهم الدينية بحرية وطمأنينة، وحرية إنشاء المؤسسات الإسلامية وبناء المساجد على الرغم من مواجهة بعض المصاعب الإدارية، ومع ذلك يواجه المسلمون صعوبات في تطبيق دينهم في ظلِّ مجتمع صناعي علماني اختفت منه المظاهر الدينية والروحية.
الإسلام في أوربابدايات باكرة لفتح أوربا

تبلغ مساحة أوربا حوالي عشرة ملايين كم2، وتأتي في المرتبة الخامسة من قارات العالم من حيث المساحة، وتليها قارة أستراليا.
تُعَدُّ قارة أوربا شبه جزيرة غير منتظمة الشكل، حيث يحدها من الشمال المحيط المتجمد الشمالي، ومن الغرب المحيط الأطلسي، ومن الجنوب البحر المتوسط، وتحدها من جهة الشرق قارة آسيا.

وقد طرق الإسلام أبواب قارة أوربا من الجهة الشرقية، وذلك بمحاولات المسلمين المتكررة لفتح القسطنطينية منذ خلافة معاوية بن أبي سفيان (41- 60هـ).

أمَّا من جهة الغرب فقد تمكَّن القائد المسلم طارق بن زياد من فتح الأندلس في عام (91هـ- 710م)، وتوغَّل المسلمون في شبه جزيرة الأندلس وعبروها لفتح فرنسا، حيث اجتازت جيوش المسلمين جبال (البيرنييه) الفاصلة بين الأندلس وبين فرنسا، وتقدموا شمالاً إلى أن وصلوا إلى مدينة (بواتييه) الفرنسية، والتي جرت على مشارفها معركة (بلاط الشهداء) في عام (114هـ= 723م)، وقد انهزم جيش المسلمين في هذه المعركة هزيمة قاسية وقُتِل منه الكثير، وبهذه المعركة توقف المدّ الإسلامي للقارة الأوربية من هذه الجهة[1].

وقد تمكَّن الأغالبة حكام تونس من فتح الجهة الجنوبية للقارة الأوربية، وذلك بفتحهم جزيرة سردينيا عام (95هـ- 810م)، ثم جزيرة كريت، ثم قام أسد بن الفرات بقيادة أسطول مسلم لفتح جزيرة صقلية المنفذ الجنوبي لأوربا الوسطى عام (212هـ- 827م)، وتم فتح (باليرمو) عام (216هـ- 831م).

كانت مدن إيطاليا المتنازعة فيما بينها تستعين بالمسلمين ليحارب بعضُها بعضًا مما يسَّر للمسلمين الاستيلاء على بعض أجزاء إيطاليا الساحلية، بل ووصل الأمر إلى أن اضطر "البابا يوحنا الثامن" في عام (484هـ- 872م) إلى أن يدفع الجزية للمسلمين بعد أن هددوا مدينة روما نفسها، وقد كانت جزيرة صقلية همزة الوصل التجارية بين شمال إفريقيا وأوربا، كما كانت نقطة احتكاك حضاري على درجة عالية من الأهمية للمسلمين والأوربيين[2].

ولكن تظلُّ الأندلس هي أهم نقاط الاحتكاك الحضاري بين المسلمين والأوربيين، حيث كانت بمنزلة مركز إشعاع وتنوير في غرب أوربا، وقد أصبحت (مدينة طُلَيْطِلَة) التي استولى عليها الأسبان عام (478هـ- 1085م) مركزا مهمًّا وحيويًّا لنقل العلوم وترجمتها من العربية إلى اللاتينية، فكانت تُعَدُّ المنارة الهادية لطلاب العلم من كافة أنحاء أوربا الغربية والوسطى، وظلت (طليطلة) قرابة أربعة قرون المركز الثقافي والديني الأول في شبة جزيرة إسبانيا (الأندلس).

وكما ذكرنا فقد حاول المسلمون فتح جنوبي شرقي أوربا عن طريق (القسطنطينية) منذ القرن الأول الهجري، ولكن تأخَّر فتحها لحصانتها حتى أتَّم الله عز وجل فتحها على يد المجاهد المسلم القائد محمد الفاتح في عام 857هـ الموافق 1453م، وتحقق في هذا القائد ثناء النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: "لَتُفْتَحَنَّ الْقُسْطَنْطِينِيَّةُ، فَلَنِعْمَ الأَمِيرُ أَمِيرُهَا"[3].وقد اتخذ محمد الفاتح مدينة القسطنطينية عاصمة لدولته، وأطلق عليها اسم (إسلام بول) أي دار الإسلام، الذي حُرِّف بعد ذلك إلى (إستانبول)، واستمرت المدينة عاصمة للبلاد حتى سقطت الخلافة العثمانية[4].

وكذلك يعود للخلافة العثمانية الفضل في فتح وسط أوربا؛ حيث فتح العثمانيون منطقة البلقان في عام (756هـ- 1355م)، ودانت لهم كل بلدان أوربا الوسطى الواحدة تلو الأخرى، فتم فتح بلغاريا في عام (774هـ- 1372م)، وفُتِحت بلاد الصرب في عام (788هـ- 1386م)، والبوسنة والهرسك في عام (792هـ- 1389م)، وكذلك كرواتيا وألبانيا وبلجراد وبلاد المجر. كما أن الجيوش العثمانية بقيادة السلطان سليمان القانوني وصلت إلى أسوار فيينا وحاصرتها في عام (936هـ- 1529م)، ولم تتمكن من فتحها كذلك بعد أكثر من مائة وخمسين عامًا في عام (1094هـ- 1683م) في عهد السلطان محمد الرابع.

وقد بقيت معظم هذه الأراضي بيد المسلمين وتابعة للخلافة العثمانية طوال فترة قوتها، ولكنها بدأت تتفلَّت تدريجيًّا مع دخول الدولة العثمانية في مرحلة الضعف، ولم يبق للخلافة العثمانية في عام (1337هـ- 1918م) إلا مدينة إستانبول على أرض القارة الأوربية. وقد ترتب على بقاء هذه المناطق الأوربية لفترات طويلة في ظلِّ الخلافة العثمانية أن أصبحت مناطق بأسرها ذات أغلبية مسلمة، مثل: مقدونيا، وألبانيا، والبوسنة والهرسك، والجبل الأسود، وجاليات إسلامية ضخمة في بلغاريا ورومانيا[5].

ويرجع دخول أغلب سكان المناطق التي سيطر عليها العثمانيون في الإسلام إلى معاملة المسلمين لأهل هذه البلاد بالعدل والمساواة، فكان الشخص القروي الضعيف الفقير يستطيع أن يرتقي إلى أعلى المراكز وأكثرها نفوذًا في الإمبراطورية العثمانية، وهو شكل من أشكال العدالة الاجتماعية كان مستحيلاً في المجتمعات الأوربية المعاصرة للعثمانيين. كما حلَّ الأمن في هذه المناطق مكان الصراع والفوضى، واستفادت أوربا من التنظيم الدقيق للعسكرية التركية، وكذلك من النظم الإدارية التي تعتمد على الكفاءة بالدرجة الأولى.

وقد تمتع أيضًا أصحاب الديانات الأخرى كالنصرانية واليهودية في المناطق التي حكمها العثمانيون خلال عدة قرون بمعاملة كريمة تظهر آثارها واضحة في احتفاظ أهل هذه الديانات بلغاتها وثقافاتها ودياناتها؛ وعلى النقيض نجد ما فعله الأسبان بالمسلمين بعد استيلائهم على الأندلس في عام (897هـ= 1492م) فطردوا المسلمين إلى شمال إفريقيا والمشرق العربي، وظل من بقي منهم - وهم قلة - يعانون من آثار الاضطهاد والتعصب النصراني الأعمى في ظل حكم إسباني غير متسامح، وتحولوا في نهاية الأمر إلى الديانة النصرانية تحت ضغط محاكم التفتيش التي نصبت لهم في كل مكان.
مأساة البوسنة والهرسكمأساة البوسنة والهرسك.. وعداء دفين!!

لم تنتهِ معاناة المسلمين مع التعصُّب الديني بانتهاء العصور الوسطى ودخول أوربا عصر العلم والعمل، بل نأخذ مأساة المسلمين في منطقة البلقان، وبالتحديد في البوسنة والهرسك كدليل على استمرار هذا المرض متأصلاً في نفوس البعض حتى عصرنا الحالي.

فقد منح مؤتمر برلين المنعقد في عام 1878م للنمسا والمجر الإدارة المؤقتة للبوسنة والهرسك، لترحل بذلك الدولة العثمانية عن البوسنة والهرسك، فأصبح الشعب المسلم في هذه المنطقة بحلول عام 1908م تحت سيطرة النمسا.

وبالرغم من أن معاهدة برلين نصت على احترام حقوق المواطن دون تمييز، فقد تعرَّض المسلمون بعدها إلى حروب تصفية مستمرة لم تتوقف على أيدي العصابات الصربية والكرواتية المدعومة من النمساويين والهنغاريين، ولم ينتهِ مسلسل اضطهاد المسلمين؛ ففي أثناء الحرب العالمية ساعدت ألمانيا النازية حليفتها كرواتيا لتضم البوسنة والهرسك إليها، ثمَّ شكَّل تيتو سنة 1943م حكومة مؤقتة مهَّدت لإنشاء يوغسلافيا الاتحادية، وضمت جمهورية يوغسلافيا ست جمهوريات هي: صربيا، كرواتيا، سلوفينيا، مقدونيا، الجبل الأسود، والبوسنة والهرسك التي أُلحقت بيوغسلافيا سنة 1945م.

ولم تكن أيام الشيوعية بالأيام السعيدة بالنسبة للمسلمين؛ فلقد قضى الشيوعيون في هذه الدولة على أي نشاط دعويّ للإسلام. وبالرغم من ظهور بصيص من الأمل باعتراف الدولة الشيوعية بالقومية الإسلامية في دستور 1974م إلا أن الاعتراف لم يلغِ العصبية الصربية وأطماعها الممتدة للاستيلاء على أراضي البوسنة والهرسك لبناء صربيا الكبرى.

عندما بدأت يوغسلافيا في الانهيار خاصةً بعد وفاة تيتو وانهيار الشيوعية في شرق أوربا عام 1988م بدأت الجمهوريات اليوغسلافية الست تنفصل، وأعلن برلمان سراييفو (عاصمة البوسنة) استقلال جمهورية البوسنة والهرسك في 15/ 10/ 1991م، وأجرت الحكومة البوسنية استفتاءً أعلن فيه 99% رغبتهم في الاستقلال، ليعلن بذلك علي عزت بيجوفيتش استقلال الجمهورية رسميًّا في 4/ 3/ 1992م.

ولما كانت صربيا تريد تشكيل يوغسلافيا جديدة تشمل منطقتي البوسنة والهرسك إليها، فقد تفجَّر الموقف في البوسنة والهرسك في 9/ 3/ 1992م عندما أعلن الصرب الحرب على جمهورية البوسنة والهرسك، وقَدِم الصرب إلى البوسنة والهرسك بالمدرعات والدبابات التي ورثوها عن جيش الاتحاد اليوغسلافي المفكَّك؛ حيث كان معظمه من الصرب، وبعثت الأمم المتحدة بقواتها لحفظ السلام في 23/ 3/ 1992م، وإيقاف اعتداء الصرب على كلٍّ من كرواتيا والبوسنة، وأوقف الصرب اعتداءاتهم على كرواتيا بينما امتدَّ الاعتداء على المسلمين واتسع حتى عمَّ القتال غير المتكافئ جميع مدن البوسنة والهرسك، لتبدأ البوسنة صفحة دامية من حياتها.

أعمل الصرب القتل في مسلمي البوسنة والهرسك بقصد واضح وهو التطهير العرقي، ولجأوا إلى أبشع الوسائل وأخسِّها، ولم يفرِّق بين محارب ومدني، بل شملت المجازر حتى الأطفال، وتم اغتصاب الآلاف من الفتيات والسيدات المسلمات بهدف نشر الرعب والفزع، ودفع المسلمين إلى الهرب وترك وطنهم. وقد قُدِّر عدد الفتيات والسيدات اللاتي تم اغتصابهن بعشرين ألفًا في أقل التقديرات، ولا يزال إلى يومنا هذا اكتشاف المقابر الجماعية التي أعدَّها الصرب للمسلمين بهدف طمس معالم جريمتهم.

ولا يعلم أحدٌ سرَّ هذا العداء الدفين في نفوس بعض الأوربيين للإسلام، وكأنه ثأر قديم مع المسلمين، ويتعجَّب المرء لذلك أشدَّ التعجُّب؛ فلم يسجِّل التاريخ معاملة حضارية وإنسانية من جيش فاتح ومنتصر مثلما سجَّل للجيوش الإسلامية على مرِّ العصور، بل لقد استفاد العالم -وأوربا على وجه الخصوص- بالفتوح الإسلامية في كل المجالات ما لا يستطيع أن ينكره أحد.

فقد كان لدخول الإسلام في قارة أوربا أعظم الأثر، وذلك باعتراف الأوربيين أنفسهم، وليس أدلّ على ذلك مما جاء في كتاب (حضارة العرب) للمستشرق الفرنسي الشهير جوستاف لوبون؛ حيث ذكر صراحة أنَّ الحضارة الأوربية في القرن التاسع والعاشر من ميلاد المسيح عليه السلام كانت غارقةً في الجهل والتخلف، وكان أمراؤها يفخرون بأنهم لا يقرءون، وقد دامت هذه الهمجية الأوربية البالغة زمنًا طويلاً، وعلى النقيض كانت الحضارة الإسلامية في إسبانيا ساطعة ومشرقة، وحينما أرادت أوربا التحرر من قيود الجهل والتأخر ولَّت وجهها شطر المسلمين الذين كانوا الأئمة وحدهم، ثم يعترف جوستاف لوبون بأن الحروب الصليبية لم تكن هي السبب في إدخال العلوم إلى أوربا، وإنما دخلت العلوم إلى القارة الأوربية عن طريق إسبانيا وصقلِّيَة وإيطاليا؛ حيث بدأت في مدينة طليطلة الأندلسية حركة الترجمة التي نقلت أهم كتب المسلمين من العربية إلى اللغة اللاتينية، ولم يتوانَ الغرب في أمر هذه الترجمة طوال القرنين الثاني عشر والثالث عشر من الميلاد، فتمت ترجمة كل كتب نوابغ المسلمين من أمثال الرَّازي وابن سينا وابن رشد وغيرهم الكثير، كما لم تعرف أوربا شيئًا عن علماء اليونان القديمة أمثال جالينيوس وأرسطو وأرشميدس إلاَّ من خلال ما قام المسلمون بنقله إلى اللغة العربية، ولم يكن في القرن العاشر من الميلاد على مستوى العالم بلاد يمكن الدراسة فيها غير الأندلس وبلاد الشرق الإسلامي، كما لم يظهر في أوربا حتى القرن الخامس عشر الميلادي أيُّ عالِمٍ لم يعتمد على استنساخ كتب المسلمين؛ فقد ظلَّت هذه الكتب طوال ستة قرون تقريبًا مصدرًا وحيدًا للتدريس في جامعات أوربا[6].
الجاليات المسلمة في أورباالجاليات المسلمة في أوربا

أمَّا الآن وفي عصرنا الحالي فيعيش المسلمون في القارة الأوربية على هيئة أقليات متناثرة، يختلف حجمها من دولة أوربية إلى الأخرى ما بين الآلاف والملايين، فيُقدَّر تعداد المسلمين بالملايين في روسيا الاتحادية، وبعض بلاد أوربا الشرقية، وهناك دولة واحدة يشكِّل المسلمون فيها الأغلبية الساحقة من السكان وهي ألبانيا.

أمَّا المسلمون في بلاد أوربا الغربية فأحوالهم مختلفة، ذلك أن عددهم في أيٍّ من هذه البلاد يبدأ بالمئات في بعضها، وينمو حتى يقارب بضعة ملايين في بعضها الآخر، والسواد الأعظم من المسلمين في هذه البلاد وفدوا إليها بحكم الصلات السياسية التي كانت تربط بلدانهم والبلدان الأوربية التي يعيشون فيها، وقد حضروا إلى تلك البلاد بحثًا عن عمل، أو سعيًا وراء فرصٍ أفضل في الحياة لم تتيسر في بلادهم الأصلية.

وإذا عرفنا أن معظم بلاد العالم الإسلامي كان واقعًا تحت وطأة الاستعمار الأوربي في آخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، أمكننا أن نتعرف إلى طبيعة الجاليات الإسلامية التي استقرت في كل بلد على حدة.

ففي بلد مثل إنجلترا نجد معظم المسلمين بها قادمين من دولٍ كانت خاضعة للاحتلال البريطاني في قارتي آسيا وإفريقيا، وخاصةً من الهند وباكستان وبنجلاديش.

وفي فرنسا نجد غالبية المسلمين من دول المغرب العربي التي كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي مثل الجزائر وتونس والمغرب، وكذلك في هولندا نجد الجانب الأكبر من المسلمين بها من إندونيسيا التي ظلَّت خاضعة للاحتلال الهولندي فترة طويلة.

أمَّا في ألمانيا فنجد الجاليات الإسلامية بها يغلب عليها العنصر التركي، وهم الذين هاجروا من تركيا بعد إلغاء الخلافة الإسلامية ودعوة مصطفى كمال أتاتورك إلى العلمانية[7].

هذه الجاليات هي التي تشكل الغالبية العظمى للجاليات الإسلامية في بلاد أوربا الغربية، وقد انضم إليها مهاجرون من بلاد إسلامية أخرى، كما أن أعدادًا كبيرة من سكان أوربا دخلت الإسلام بحكم الصلات التاريخية مع العالم الإسلامي التي سبقت الإشارة إليها؛ مما أدَّى إلى ازدياد فرص التفهم لطبيعة الإسلام عند هؤلاء الأوربيين على اختلاف نزعاتهم الفكرية ومستوياتهم الاجتماعية، وكذلك إتاحة الفرصة للأوربيين للقراءة عن الإسلام في مصادره الأصلية، بعيدًا عن تشويه المستشرقين ومغالطاتهم التي حاولت الأجيال السابقة منهم أن تروِّجها عن الإسلام بين الأوربيين.

أيضًا كان من الأسباب ذات الأثر البعيد في تغيُّر نظرة الأوربيين للإسلام اعتناقُ عددٍ من المثقفين الأوربيين ذوي المكانة الاجتماعية المرموقة للإسلام؛ لما اكتشفوه في الإسلام من وضوح الرؤية، واستقامة العقيدة ومسايرتها للمنطق السليم.

وتتوزع الأقليات المسلمة في أوربا على النحو التالي:
أولاً: في روسيا الاتحادية (شرق أوربا):

يبلغ عدد المسلمين في روسيا الاتحادية الفيدرالية حوالي 20 مليون نسمة، يتركزون في المناطق المتاخمة لحوض نهر الفولجا، وفي منطقة شمال القوقاز مثل الشيشان والأنجوش وداغستان، وأيضًا في منطقة سيبريا.
ثانيًا: الجمهوريات المستقلة عن الاتحاد السوفيتي (شرق أوربا):

توجد أقلية إسلامية في جمهورية جورجيا تبلغ نسبتها 19% من عدد السكان، وفي جمهورية أرمينيا يبلغ عدد المسلمين ما يقرب من نصف مليون مسلم من إجمالي عدد السكان البالغ 3 ملايين نسمة في عام 2007م. كما يعيش في جمهورية مولدافيا أكثر من ثلث مليون مسلم من إجمالي 4 ملايين نسمة 2007م، أي بما يمثل 12% تقريبًا من عدد السكان. وأيضًا في جمهورية ليتوانيا توجد أقلية مسلمة تُقدَّر بخمسين ألفًا من عدد السكان البالغ 3.5 ملايين نسمة عام 2007م[8]، وتمثِّل 1.3% من السكان.
ثالثًا: في جمهوريات وسط أوربا والبلقان:

يتكون معظم الأقلية المسلمة في وسط أوربا والبلقان من أهل البلاد أنفسهم، كالألبان والبوسنيين، أو من الأتراك الذين استوطنوا هذه المنطقة. ويتراوح عدد المسلمين في هذه المنطقة بين 8- 10 ملايين مسلم، ويتركزون في ألبانيا والبوسنة والهرسك وبلغاريا، وكوسوفو وهي جمهورية إسلامية 100%، إضافةً إلى مقدونيا، وباقي دول وسط أوربا مثل رومانيا، المجر، وغيرها[9].
المسلمون فى أحد مساجد فرنسارابعًا: بقية دول أوربا:

تتركز الجاليات الإسلامية الكبرى غرب أوربا في كل من فرنسا، وألمانيا، وبريطانيا.

وتعود بدايات الوجود الإسلامي في الأراضي الفرنسية إلى أيام دولة الأندلس، وبعد هزيمة المسلمين في معركة بلاط الشهداء -كما ذكرنا- حيث وقع بعض الأسرى المسلمين في قبضة الفرنسيين، تم نقلهم إلى شمال فرنسا، واستقروا هناك، فاعتُبِر ذلك بمنزلة أول الوجود الفعلي للمسلمين في فرنسا، وبعد سقوط دولة الأندلس، وملاحقة الفرنجة للمسلمين بالتقتيل وارتكاب المجازر؛ اضطرَّ حوالي 150 ألف مسلم إلى اللجوء إلى جنوب فرنسا والاستقرار فيها.

وتُعتَبَر الدفعات الأخيرة من الهجرة إلى فرنسا هي التي وقعت في العصر الحديث في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وقد كانت معظم هذه الهجرات قادمة من بلاد المغرب العربي، ولأسباب اقتصادية كالبحث عن فرص للعمل، أو أسباب سياسية كالنجاة من اضطهاد الأنظمة الديكتاتورية.

أمَّا في الوقت الحالي فقد أصبح الإسلام هو الدين الثاني في فرنسا؛ حيث يعيش فيها أكثر من 6 ملايين مسلم من أصل 63.7 مليون نسمة وهم عدد السكان في عام 2007م[10]، لتمثِّل نسبة الأقلية المسلمة 9.4% من سكان فرنسا. مع العلم أن الإحصائيات غير الرسمية تشير إلى أنَّ عدد المسلمين أكثر من ذلك بكثير؛ لأن الإحصاءات الرسمية لا تضع في حساباتها إلا المسلمين الأصليين؛ أي الذين يأتون من بلادهم وهم مسلمون، أمَّا المسلمون فرنسيو الأصل فلا يدخلون في التعداد؛ لأن فرنسا دولة علمانية لا تضع خانة الديانة في إثبات الشخصية.

وتشير توقعات ودراسات إلى أن هؤلاء المسلمين سيتضاعفون ثلاث مرات بحلول عام (2020م) ليقترب عددهم من (20) مليون نسمة؛ وذلك بسبب ارتفاع نسبة الخصوبة والمواليد بين المسلمين، واستمرار تدفق المهاجرين المسلمين لفرنسا، وكذلك دخول أعداد غير قليلة من الفرنسيين في الإسلام؛ حيث يزيد عدد المسلمين من أصل فرنسي على 100 ألف، كما يوجد الآن في فرنسا 1300 مسجد، وحوالي 600 جمعية إسلامية. وتشير الإحصاءات أيضًا إلى أن 40% من الجاليات المغربية يحصلون سنويًّا على الجنسية الفرنسية، وهو ما يمثِّل حالة من الفزع والتوتر لدى الحكومة الفرنسية، وظهر أثر هذا التوتر الحكومي جليًّا فيما تعرضت له الجالية المسلمة ورموزها مؤخرًا من اضطهاد دفع بأبناء الجالية المسلمة إلى التذمُّر والاحتجاج، كما طالعتنا وسائل الإعلام المختلفة.

وفي ألمانيا نجد تزايدًا ملحوظًا في عدد المُقبِلين على اعتناق الإسلام، فنجد أنَّه خلال الفترة من يونيو 2004م إلى يونيو 2005م اعتنق الإسلام 4000 ألماني بزيادة أربعة أمثال عدد من أسلموا خلال نفس الفترة من العام الذي سبقها[11]. ويبلغ العدد الإجمالي للمسلمين في ألمانيا حوالي 3.5 ملايين مسلم، بما يمثل نسبة 4.2% من عدد سكان ألمانيا البالغين 82 مليون نسمة في عام 2007م. ويعود استقرار السكان المسلمين في ألمانيا إلى القرن السادس عشر الميلادي، وقد تم بناء أول مسجد في مدينة بوتسدام الألمانية في عام 1731م.

أمَّا أقدم المساجد الباقية إلى الآن فهو في العاصمة برلين وتم بناؤه في عام 1924م، ويليه مسجد في مدينة هامبورج أقيم في عام 1957م، ويعتبر مسجد (الفتح) المقام في مدينة مانهايم منذ عام 1995م من أكبر مساجد ألمانيا، وقد بلغ عدد المساجد وأماكن الصلاة في ألمانيا الحالية إلى 2200 مسجد ومصلَّى.

ومن المنظمات الإسلامية الفاعلة في المجتمع الألماني منظمة التجمع الإسلامي، التي تأسست في عام 1958م على يد جماعة من الطلبة الوافدين بمشاركة عدد من المسلمين المقيمين في ألمانيا، ويصدر عن التجمع مجلة بعنوان (الإسلام)، ولها صفحة إلكترونية على شبكة الإنترنت. وقد أسهمت المنظمة في تأسيس عدد كبير من المراكز الإسلامية بالمدن الألمانية، وأهمها المراكز الإسلامية بمدن ميونيخ وشتوتجارت وكولونيا، ويتبع المنظمةَ 60 جمعية إسلامية، وبلغ عدد أعضائها نحو 60 ألفًا.

بجانب منظمة التجمع الإسلامي يوجد العديد من المنظمات الإسلامية، مثل هيئة الاتحاد التركي الإسلامي التي تأسست في عام 1985م، ومؤسسة (ميلي جوروش) التركية التي أسِّست في 1986م، والمجلس الأعلى للمسلمين في ألمانيا الذي تأسس في عام 1994م[12].

أحد المساجد في بريطانياوفي بريطانيا تعدَّى عدد المسلمين 1.6 مليون مسلم، بما يمثل نسبة 2.7% من عدد السكان البالغ عددهم 61 مليون نسمة في عام 2007م[13].

وبالنسبة لإيطاليا فتشير آخر الإحصاءات الرسمية الإيطالية إلى أن عدد المسلمين في إيطاليا بلغ ‏‏أكثر من مليون مسلم، من بين 58 مليون نسمة هم عدد سكان إيطاليا في عام 2007م[14]. كما يُقدَّر عدد المسلمين في إسبانيا -حسب (الاتحاد الإسباني للجماعات المسلمة)- بنحو 700 ألف مسلم، بينهم أكثر من 200 ألف يحملون الجنسية الإسبانية، وقد بلغ عدد سكان إسبانيا 40.4 مليون نسمة في عام 2007م، كما يقدَّر عدد المساجد في مختلف المدن الإسبانية بنحو 600 مسجد[15].

أيضًا توجد الجاليات المسلمة في بقية الدول الأوربية، مثل هولندا بنسبة 5.5% من عدد السكان البالغ 16.5 مليون نسمة عام 2007م[16]. وأيضًا في سويسرا التي تقع جنوبي أوربا الوسطى، ويصل عدد سكانها إلى حوالي سبعة ملايين نسمة، وقد وصل الإسلام إلى سويسرا بواسطة البحَّارة الأندلسيين المسلمين في عام 321هـ- 939م، وبعد سقوط الأندلس هاجر عدد من المسلمين فرارًا من الاضطهاد الديني إلى جنوب سويسرا. وفي العصر الحديث بعد الحرب العالمية الثانية لجأت إلى سويسرا أقلية مسلمة، ونتيجة لجهود بعض الدعاة اعتنق عدد من السويسريين الإسلام، وكان عدد المسلمين بسويسرا في سنة (1371هـ= 1951م) يقدَّر بألفين، ويقدَّر عددهم الآن بنحو 400 ألف مسلم[17]. وتوجد الجاليات المسلمة أيضًا في إيطاليا وبلجيكا واليونان وقبرص وإسبانيا ومالطا والنمسا، وغيرها من بقية الدول الأوربية.

ويقدَّر عدد المسلمين في أوربا بكاملها بحوالي 50 مليون مسلم[18].

ويمكن تصنيف الأقلية المسلمة في أوربا كما يلي:

1- أبناء الدول الأوربية الأصليون الذين دخلوا الإسلام منذ قرون طويلة، وحافظوا على إسلامهم رغم كل ما واجهوه من تحديات ومحاولات لمحو هويتهم الإسلامية، مثل الألبان والبوسنيين، والكوسوفيين المقدونيين، والمسلمين في بلغاريا. ويضاف إليهم المسلمون الجدد، من أمثال (رجاء جارودي) من فرنسا، و(مراد هوفمان) من ألمانيا، وغيرهما ممن اعتنقوا الإسلام.

2- مسلمون مهاجرون تجنَّسوا بجنسية البلد المقيمين فيه، مثل المهاجرين إلى أوربا بغرض العمل، ثم استقروا في بلد المهجر، والطلاب الذين سافروا لاستكمال دراساتهم العليا في أوربا ثم آثروا البقاء والإقامة هناك، وغيرهم الكثير ممن اجتذبته النهضة الأوربية الحديثة للهجرة إليها والاستقرار بها[19].
مسلمو أوربا.. مشكلات وتحديات

لا نستطيع أن نتخطَّى هذه النقطة بدون التعرض للمشكلات التي تعاني منها الجاليات المسلمة في القارة الأوربية، فما زالت الغالبية العظمى من المهاجرين المسلمين الذين يعيشون في أوربا يجهلون كل شيء عن واقع وتاريخ أوربا التي يعيشون فيها، فهذه الغالبية لا تعرف تاريخ البلد الذي تعيش فيه ولا مؤسَّساته ولا رموزه الفكرية ولا المسئولين عنه؛ الأمر الذي يحرمهم من التكيف مع هذا المجتمع والاندماج فيه. كما نجد أنَّ الأغلبية العظمى من أبناء الجالية الإسلامية ليست مثقَّفة، سواء ثقافة إسلامية دينية أو حتى ثقافة غربية، وتفتقد الجالية المسلمة في نفس الوقت القيادة الفكرية المستنيرة الناضجة التي تستطيع احتواء المهاجر المسلم وإرشاده إلى الطريق القويم.

كما تعاني الجاليات الإسلامية من خلافاتها الداخلية مثل الخلافات العرقية أو المذهبية. ومن أخطر المشاكل التي يعاني منها المسلمون في أوربا تلك التي يواجهها الجيلان الثاني والثالث على نحو خاصٍّ، فبينما تنحصر مشكلة الجيل الأول غالبًا في الغُربة عن وطنه، نجد الجيلين الآخرين يعانيان من مخاطر الاغتراب الفكري والروحي؛ وذلك بسبب غياب الاتصال بثقافة البلد الأصلي فينشأ جيل حائر متذبذب، بل وأحيانًا رافض لانتمائه الأصلي ومتطلِّع إلى الانصهار في مجتمعه الجديد، وتبلغ المعاناة أَوْجَهَا حين يتبرَّأ هذا الجيل من بيئته الأصلية انحيازًا إلى بيئة جديدة ولكنها ترفضه بدورها.

كانت الهجرة العربية إلى بلدان أوربا في بدايتها مفروضة وإلزامية خاصة بالنسبة لأبناء المغرب العربي الخاضع للاحتلال الفرنسي، ثم أصبحت بمرور الزمن طواعية تتحكم فيها ظروف موضوعية، وكان الاستعمار هو محرِّكها ودافعها الأساسي، وبمرور الزمن صارت دوافعها المباشرة في الغالب اقتصادية واجتماعية[20].

وقد شهدت العقود الأخيرة تزايدًا ملحوظًا في عدد العرب المهاجرين إلى أوربا، بل وتحوَّلت الهجرة العربية خلال عقد الثمانينيات من هجرة ذكور إلى هجرة أسرية.

وغالب الهجرة العربية إلى بلدان أوربا هجرة من أجل العمل، ويعمل معظم المهاجرين العرب كعمَّال غير مؤهَّلين يقومون عادةً بأصعب وأشقِّ المهن، ويتقاضون الأجور المتدنية بالنسبة إلى زملائهم الأوربيين، ويقيمون عادةً في مساكن غير صحية وغير ملائمة، وفي أحياء معزولة عن باقي المساكن، ويمثلون بالتالي الفئة الاجتماعية الأقل يُسْرًا من الناحية المادية بين سكَّان أوربا.

كما يتعرض أبناء المهاجرين العرب في أوربا إلى مجموعة من المشكلات أهمها فشل أبناء المهاجرين مدرسيًّا حيث يتسرَّب معظمهم (ثلاثة أرباعهم تقريبًا) من المدارس، وتعتبر نسبة الفشل الدراسي بين أبناء المهاجرين مرتفعة جدًّا. كما توجِّه السياسات التعليمية الانتقائية المعتمدة في دول الغرب أبناء المهاجرين إلى التعليم المهني، وفي نفس اختصاصات آبائهم؛ مما يعوق تطلعهم لممارسة ما يتطلب خبرة فنية عالية، ومن ثَمَّ تخلق هذه الأوضاع شعورًا بالنقص عند أبناء المهاجرين يدفعهم إلى عدم الاعتزاز بتقاليد وقيم والديهم.

ولا ننكر أنَّ الوضع المتردِّي لمعظم دول العالم الإسلامي كان سببًا مباشرًا لهذه الهجرات المتوالية، إضافةً إلى حالة التشتت والفردية التي يعاني منها منذ إلغاء الخلافة الإسلامية التي كانت بمنزلة الهيئة المدافعة عن كل المسلمين في أي مكان في العالم، فلم يكن أحدٌ يجرؤ على الانتقاص من حق المسلمين إلاَّ بعد إسقاطها، أمّا منذ سقوط الخلافة الإسلامية إلى الآن فلم نجد على مستوى الحكومات العربية والإسلامية سياسة واحدة واضحة ومسئولة بالنسبة إلى الوجود العربي - الإسلامي في أوربا أو الغرب.

ومن أهم التحديات الفكرية التي تواجه الجاليات الإسلامية في أوربا، وتشعر بها طوال الوقت أن هناك فجوة فكرية في التاريخ الإسلامي، وفي فقه المسلمين في الغرب، ومصدر هذه الفجوة أن العلماء والفقهاء ظلُّوا على امتداد التاريخ الإسلامي يفكرون في الجاليات غير الإسلامية التي تعيش في ديار المسلمين، وقد وضعوا لهؤلاء كتبًا وفقهًا تغني هذا الجانب، ولكن هؤلاء العلماء لم يفكروا - إلاَّ قليلاً - في وضع الجاليات الإسلامية التي تعيش في الغرب.

ولذا فإنَّ الحاجة أصبحت مُلِحَّة إلى فقهٍ للأقليات الإسلامية في الخارج، يدرس أحوال المهاجرين، ويحصر أمرها لتجد سبيلها إلى أحكام فقهية تيسِّر وتسهِّل حياة إخواننا في الخارج[21].

وقد بدأت بالفعل جهود محمودة في هذا المضمار، منها إنشاء المجلس الأوربي للإفتاء، والاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
اضطهاد المسلمين في أوربانظرة دول أوربا للمسلمين

هذا وقد اختلفت تجارب الدول الأوربية في إدماج المسلمين، ويعتبر اعتراف الإمبراطور النمساوي فرانز جوزيف في عام 1912م بالديانة الإسلامية كدين رسمي أقدم اعتراف رسمي بالإسلام في قارة أوربا، ورغم ذلك فإن أول جمعية إسلامية دينية أُنشِئت في فيينا كانت سنة 1979م، أي بعد ما يقرب من سبعين عامًا، كما لم يتم تدريس التربية الدينية لأبناء المسلمين إلا عام 1982م. وفي إيطاليا لا تزال الحكومة الإيطالية تأبى الاعتراف بالإسلام كدين رسمي؛ وقد أدَّى هذا التعنت إلى حدوث ازدواجية ثقافية وصراع نفسي لدى الناشئة المسلمين الذين لا يستطيعون أن يندمجوا في المجتمع الإيطالي؛ لأنهم مسلمون، ومع ذلك يشعرون بالانتماء إلى الأرض التي وُلِدوا ونشئوا عليها.

أمَّا في ألمانيا فما زال الألمان ينظرون إلى المسلمين على أنهم أجانب وخطر على المجتمع. وفي هولندا نجد رئيس وزرائها يدعو إلى إغلاق المدارس الإسلامية وعددها 35 مدرسة؛ بحجة أنها لا تشجِّع على إدماج الأطفال المسلمين داخل المجتمع.

وتأتي التجربتان البريطانية والفرنسية كتجربتين رائدتين في التعامل مع قضية اندماج المسلمين في المجتمع الأوربي؛ فبحلول عام 1842م كان يزور بريطانيا كل عام حوالي 3000 من البحَّارة المسلمين، وبعضهم استقرَّ في مدن بريطانية مثل ليفربول ولندن، وقد تم بناء أوَّل مسجد في بريطانيا في عام 1889م ويسمى مسجد ووكينج، وذلك بعدما اعتنق عدد كبير من صفوة المجتمع البريطاني الإسلام.

وفي الخمسينيات من القرن الماضي، بدأت أكبر حملات الهجرة إلى بريطانيا من قِبَل المسلمين، حيث أتى أغلبهم من القرى في جنوب شرق آسيا، وخصوصًا من شبه القارة الهندية.

يقدَّر عدد المسلمين في المملكة المتحدة الآن -كما ذكرنا- بحوالي 1.6 مليون مسلم، من بينهم ما يقارب 50 % من مواليد بريطانيا[22]. ويوجد في بريطانيا 600 مسجد، مقارنة بـ 13 مسجدًا في عام 1963م، كما يوجد في بريطانيا 1400 جمعية إسلامية. ويتميز المسلمون في بريطانيا بأنهم أكثر امتلاكًا للعنصر الشبابي من البريطانيين أنفسهم؛ لارتفاع نسبة الخصوبة بين المسلمين، ومعدل المواليد المرتفع نسبيًّا، وتبلغ نسبة المسلمين المولودين في بريطانيا حوالي 55% من مجموع المسلمين، إضافةً إلى وجود سياسي في مجلس العموم واللوردات وعلى مستوى البلديات، كذلك يوجد لهم حزب إسلامي[23].

وينظر القانون البريطاني إلى الجماعات العِرْقِية المختلفة نظرة إيجابية، ويسمح لها بقدرٍ من التمايز؛ فالعِرق في بريطانيا يشير إلى وضع قانوني وليس إلى شيء مذموم. وفي ظل الحرية المسموحة للتعبير عن الهوية السياسية للقوميات استطاع المسلمون أن يُعبِّروا عن أنفسهم في النظام السياسي، وقد سعى مسلمو بريطانيا لإبراز هويتهم الدينية والثقافية من خلال آليات متعددة، منها: التدخل في العملية التعليمية من أجل فرض ما يجب تعليمه لأطفال المسلمين، وتشكيل جماعات ضغط من المسلمين في الانتخابات البلدية والتشريعية تهدف لوضع مصالح المسلمين في الحسبان، إضافةً إلى فتح قنوات للحوار مع الحكومة لتحقيق حمايتهم من الهجمات العنصرية، والاعتراف بالزواج الشرعي الإسلامي أمام المحاكم البريطانية[24].



أمَّا في فرنسا فيوجد ارتباك ملحوظ في سياسية الدولة الفرنسية تجاه المسلمين بالنسبة لقضية الاندماج؛ لذلك احتلَّت قضية المهاجرين حيزًا كبيرًا في الانتخابات الرئاسية في فرنسا، وكان السبب في صعود اليمين المتطرف هو تعهُّده بالحدِّ من الهجرة الأجنبية لفرنسا، حيث أوضحت صناديق الاقتراع حجم الكراهية للأجانب من جانب قطاع كبير من الشعب الفرنسي؛ ولكن عندما استفحلت ظاهرة العداء للمهاجرين، وتسببت في وقوع أحداث شغب خطيرة أدَّت لفرض حالة الطوارئ لأول مرة منذ فترة طويلة بدأت الحكومة تنتهج سياسة جديدة للحد من الكراهية للأجانب تجسدت في إعلانات تلفزيونية تُظهِر ضرورة السماحة مع الملوَّنين، وتنتهي هذه الإعلانات بعبارة (بدون عنصرية فرنسا أفضل).

كما قامت الحكومة الفرنسية بمساعدة المهاجرين على الاندماج في المجتمع، وأنشأت وزارة خاصة لهذا الشأن وجعلت على رأسها وزيرة من أصل جزائري ، من مهامها مساعدة المهاجرين على الاندماج. كما قامت الداخلية الفرنسية بعقد لقاءات مع مسئولي منظمات وهيئات إسلامية في فرنسا تمهيدًا لتشكيل مجلس تمثيلي لمسلمي فرنسا يمثل المسلمين لدى السلطات العامة[25].
تزايد المسلمين في أوربا .. وصعوبات كثيرة

لعله من الملاحظ وجود حركة إحيائية لروح الإسلام بين المسلمين المستقرِّين في أوربا بشكل عام، وكذلك ازدياد شعورهم بالانتماء للإسلام. كما يلاحظ ازدياد عدد المسلمين المواطنين في أوربا؛ إمَّا بسبب إسلام الأوربيين أو بواسطة المواليد المسلمين الجدد. كما تضاعفت أعداد المساجد في كل بلدان أوربا مع الزيادة اليومية لعدد المؤسسات والجمعيات الإسلامية العاملة في البلدان الأوربية[26].

وبناءً على كل ما سبق يمكننا أن نقول:

إن المسلمين في أوربا بصفة عامة يتمتعون بحقوق عديدة، مثل حق ممارسة شعائرهم الدينية بحرية وطمأنينة، وحرية إنشاء المؤسسات الإسلامية وبناء المساجد على الرغم من مواجهة بعض المصاعب الإدارية، وهذا يعني أن القوانين والدساتير الغربية الأوربية تحترم الإسلام كدين، وتحترم المسلمين أيضًا. كما يعيش معظم المسلمين في أوربا بأمنٍ وسلام بالنسبة للأمور الدينية، وهنا علينا ألاَّ نخلط بين ما سبق وبين وضع المسلمين الاقتصادي المتردي، والوضع السياسي ومشاكله، والفقر والبطالة، وازدياد وتيرة العنصرية والتحيز ضد المسلمين، وخصوصًا بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في أمريكا. ويجد المرء في بعض الأحيان قرارات متحيزة في حالات خاصة مبنية على تعصب وتحيز في قراءة وتطبيق القانون، إلا أنه لا يوجد قانون أوربي صريح يعادي المسلمين.

ومع ذلك يواجه المسلمون صعوبات في تطبيق دينهم في ظلِّ مجتمع صناعي علماني اختفت منه المظاهر الدينية والروحية؛ فكثير من الأوربيين يؤمنون بالله ولكن ليس لهذا الإيمان أي أثر في حياتهم وسلوكهم، وازدياد اهتمامهم بالتكنولوجيا يصرفهم عن ممارسة الشعائر الدينية. وينطبق هذا الأمر على كلٍّ من المسلمين والنصارى واليهود، فإذا نظرنا إلى النصف الفارغ من الكوب وجدنا العديد من المسلمين المقصرين تجاه دينهم مع أن القانون الأوربي لا يقف عثرة أمامهم، ونجد -بالرغم من تمتع المسلمين بهامش كبير من الحرية في الغرب- أن ملايين منهم قد ضاعوا وذابوا في المجتمعات الأوربية؛ فانسلخ بعضُهم من مجتمعه، وانسلخ آخرون من دينهم، وترك آخرون الاثنين معًا.

ولا شك أنَّ المسئولية الأولى لعلاج هذا التفلُّت تقع على الجمعيات والمؤسسات الإسلامية العاملة في أوربا، والتي هي أيضًا تعاني من العديد من المشاكل التي تعوقها عن أداء رسالتها.

ويعتبر من أهم المشاكل والمعوقات التي تواجه المسلمين والمؤسسات الإسلامية في القارة الأوربية -وهي مشكلة لها رواسب تاريخية- مشكلة التمييز العنصري والديني الذي ينتشر بين بعض شرائح المجتمعات الأوربية، وأثره في عدم استقرار الجالية المسلمة وخوفها من المستقبل، إضافةً إلى ضعف التواصل بين الأجيال، وأثر الجهل وضعف المستوى الثقافي والحضاري لجيل الآباء، وعدم قدرة الكثيرين منهم على توريث الهوية والقيم الإسلامية لأجيالهم الجديدة، وتأثير آفات المجتمع الأوربي المادية في المسلمين المقيمين في أوربا وخاصةً على الأجيال الجديدة، مثل التفكك العائلي والانحلال الجنسي وانتشار المخدرات[27].

كما تحتل مشكلة الفقر وضعف الموارد المالية مكانًا بارزًا في قائمة المشاكل التي تواجه المسلمين والمؤسسات الإسلامية، حيث إنَّ الأعداد الهائلة للمسلمين في الغرب ما جاءت إلى أوربا -في الغالب- إلا طلبًا للعمل وبحثًا عن مصادر الرزق؛ ولهذا يشكِّل الهاجس الاقتصادي لدى المهاجرين عامل تحدٍّ كبير في بقائهم أو رجوعهم إلى أوطانهم، وتعيش النسبة الكبرى من هؤلاء المهاجرين حياة الكفاف، وتعاني من مختلف الضغوط الاجتماعية والنفسية، إضافةً إلى الضغوط السياسية أحيانًا[28].

وكذلك لا نستطيع أن نُهمِل الانعكاسات السلبية الناتجة عن الخلافات العِرْقية والمذهبية والحركية للمسلمين في أوربا، والتي انتقلت إليهم من بلاد المشرق الإسلامي وأسهمت -وما زالت تُسهِم- في عرقلة القيام بدور ريادي متكامل للعمل الإسلامي والمؤسسات الإسلامية في أوربا. إضافة إلى وجود مجموعات وأفراد ممن يحملون توجهات وأفكارًا متشددة، البعض منها يمكن وصفها بالمتطرفة التي تسيء إلى الإسلام والمسلمين في أوربا، وذلك من خلال أطروحات تدعو إلى معاداة المجتمع الأوربي بل ومحاربته، ومما يزيد في أثرها السلبي إبراز الإعلام لها، وبالأخص الإعلام العربي والإسلامي رغم أنها لا تمثِّل إلا شريحة صغيرة من المسلمين والمؤسسات الإسلامية في أوربا.

ونختم كلامنا عن المشاكل والمعوقات التي تواجه المسلمين والمؤسسات الإسلامية في أوربا بالمشكلة الكبرى والعائق الضخم وهو غياب الدولة الإسلامية التي تُعَدُّ المثل الأعلى الذي يحمل قيم الإسلام الإنسانية والحضارية إلى العالم أجمع[29].

المصدر: تاريخ الاسلام

قد يعجبك أيضا...

أضف هذا الخبر إلى موقعك:

إنسخ الكود في الأعلى ثم ألصقه على صفتحك أو مدونتك أو موقعك

التعليقات على قصة الإسلام في أوربا

كن أول شخص وأضف تعليق على هذا الخبر الآن!

أكتب تعليقك
إسمك
البريد الإلكتروني

لن يتم إظهار بريدك الإلكتروني مع التعليق

الرقم السري
64366

من فضلك أكتب الرقم الظاهر أمامك في خانة الرقم السري

حمل تطبيق طريق الأخبار مجانا
إرسل إلى صديق
المزيد من أخبار الفن والثقافة من شبكة عرب نت 5
الأكثر إرسالا
الأكثر قراءة
أحدث أخبار الفن والثفاقة
روابط مميزة